الحب والبغض في ميزان الحق
بقلم الشيخ رشاد أبو الهيحاء، إمام مسجد الجرينة – حيفا
بداية، أتقدم بأحر التهاني لجميع المحتفلين بميلاد المسيح عيسى عليه السلام، رغم أن قلوبنا تعتصر ألماً لفراق الأحبة بسبب الحروب الطاحنة التي تقتل الأبرياء وتدمر الأوطان. إننا في هذه المناسبة نتضرع إلى الله تعالى أن يعم السلام والوئام على البشرية، وأن نعيش جميعاً في سعادة وأمان.
ولا يخفى على أحد ما يعانيه مجتمعنا من فرقة وتشتيت جراء الخصومات والعداوات التي تحرق القلب، وتدفعنا للطمع في ما بأيدي الناس. إن المخاصم يضيع فرصة عظيمة في جنة أعدها الله لعباده فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: “والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا. أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”.
من هذا الحديث، يتضح أن لا إيمان بلا حب في الله، ولا جنة للذين يحملون الحقد في قلوبهم. فالعداوة والخصومة تمزقان شمل المجتمع وتؤديان إلى تفرقة الصفوف، في وقت نحن أحوج فيه إلى الوحدة والتآلف.
وقد ورد في كتاب الله عز وجل: “وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً”. فمن واجبنا أن نبتعد عن وساوس الشياطين، وأن نخضع لله تعالى الذي أرسل رسله ليحققوا سعادة البشر، وهذه السعادة لا تتحقق إلا بالحب والمودة والرحمة.
وأما محبة الله ورضاه فهي لا تتحقق في كثرة الجدال غير المجدي، الذي قد يكون بدافع الكبر أو السعي وراء مصالح دنيوية. فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: “وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين”. ولذلك، فإن العداوة طريقٌ إلى الانحراف عن الصراط المستقيم، وهو الدعاء الذي نكرره في كل ركعة من صلاتنا: “اهدنا الصراط المستقيم”.
وفي الحديث الصحيح: “ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”. ومن هنا، يجب على المسلم أن يدفع السيئة بالمبادرة بالعمل الصالح، استجابةً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”.
الله سبحانه وتعالى أشار إلى طريقة لإعادة الوئام والمحبة في القلوب، فقال: “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”. وهذه دعوة للصبر والمثابرة في التعامل مع من بيننا وبينهم عداوة، لأن الأجر العظيم عند الله لا يناله إلا من صبر في مواجهة الخصام وتجاوز السيئات.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار”، لأن كلاً منهما حمل السلاح ضد أخيه. والمشاحنات المتواصلة بين الناس تضر بالعلاقة، وهي سبيل إلى الخسران. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم”. وأيضاً: “تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله، إلا امرأً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا”.
أشدّ خطراً من ذلك، ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن خصال النفاق، حيث قال: “أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها”.
إن المبادرة إلى الصلح ليس دليلاً على الضعف، بل هي قوة في التعامل مع الأزمات. وقد قال الإمام الشافعي في أبيات شعرية رائعة:
“قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم
إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف
وفيه لصون العرض إصلاح”.
كما لا ننسى أن المبادرة بالسلام والمصافحة تمحو السيئات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المسلم إذا صافح أخاه، تحاتت خطاياه كما تحات ورق الشجر”.
وفي الحديث النبوي الشريف: “تبسمك في وجه أخيك صدقة”، وأيضاً: “لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق”. فالكلمة الطيبة تفتح الأبواب المغلقة، وهي سبب من أسباب دخول الجنة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة”.
ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً للمحبة بين الناس إلا وبيّنه لنا، فقد حث على إفشاء السلام، والمصافحة، وإطعام الطعام، والكرم، ورفع المعانة عن المكروبين. فقال صلى الله عليه وسلم: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة”. وأيضاً: “من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة”.
ختاماً، إن الحب في الله، والابتعاد عن البغض والخصام، هو سبيلنا إلى حياة هانئة وقلوب مليئة بالسلام. فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يعم السلام والطمأنينة بين المسلمين، وأن يرزقنا المحبة والتآلف في جميع حياتنا.