صرخة استغاثة من تحت جبل الديون: كيف تحوّلت أزمة مديحة إلى فرصة للخلاص –الحلقة السادسة والاخيرة من سلسلة مقالات مديحة: من جبل الديون الى الخلاص والحرية المادية
ما كدت أن أغرق قليلاً في الحالة الشاعرية لمقدمات مقالات سلسلة مديحة وأنا جالس في زاوية الكتابة في منزلي المطلة على صالون البيت المليء باللوحات الفنية الملهمة، وأمامي شاشة الحاسوب وصفحة الـ”وورد” التي ما زالت فارغة، حتى وجدت مديحة جالسة بجانبي مبتسمة، تفاجئني بجرأتها. سألتها: “مديحة، ماذا تفعلين هنا؟ ولماذا أناملك هي التي تطرق على الكيبورد؟”، فأجابتني: “أنت تعلم جيداً أنني من إسقاطاتك، وشخصيتي التي تكتبها ما هي إلا وجه آخر لك.”
رعشة سرت في جسدي مع نسمة هواء بحرية باردة داعبتني من أسفل ذقني مرورًا بعنقي حتى شعرت بها تهمس في أذني: “استفق قبل الثمالة.” ومع لحن عزف العود لبليغ حمدي في أجمل مقطع من “فات الميعاد” يملأ أجواء المقهى، استيقظت من شبه حلم، وفكرت: “إلياس، لقد شربت زجاجة النبيذ الأبيض كلها وحدك، اصحَ!” لم أستكمل هذه الفكرة حتى نظرت مديحة في عيني وقالت: “إلياس، أأنت على ما يرام؟ سأطلب لك كأس ماء، ومنك أطلب أن تدخل في الموضوع مباشرة من دون مقدمات: كيف قد تغير معرفتي برلى حياتي؟ وثانياً، انهي المقال والسلسلة، فقد حان الأوان.”
إلياس: “أنت على حق بالتأكيد. رلى يا عزيزتي، بعد أن قررت إنهاء مسيرتها الفنية، انتقلت من بريطانيا إلى نيويورك لتدرس إدارة الأعمال والاقتصاد.”
مديحة: “لكن ما الذي يدفع ممثلة شهيرة لتغيير مسارها بهذا الشكل؟ وما علاقة الحبيب الإسباني اليخاندرو؟ ما هذه العشوائية؟”
إلياس: هذه وجهة نظرك يا مديحة. عالم الفن كان متطلباً جداً، ورلى لم تحلم يوماً بأن تصبح ممثلة شهيرة، لكن الموهبة التي منحها الله لها قادتها للمشاركة في دورات تمثيل اختيارية في كلية الفنون الجميلة أثناء دراستها لدرجة الهندسة الكهربائية في جامعة القدس. ومن هناك بدأت المسيرة نحو النجومية، بعد أن اختارها صدفة مخرج فرنسي من أصول تونسية لدور صغير في فيلم أوروبي. أما حبيبها الذي عاشت معه ست سنوات منذ وصولها إلى أوروبا، فقد خانها مع أفضل صديقة لها، مقدمة برامج الأطفال في التلفزيون البريطاني. نعم، مقدمة برامج أطفال بريئة خانتها مع حبيبها.
“أشهر من العذاب والضياع عاشتها وحدها في غرفتها مع المخدرات والكحول، وانتهت برحلة إلى الهند استمرت ستة أشهر. هناك انضمت لدير بوذي صغير، ومن حسن حظها كان الناسك السري يعيش فيه بخلوة، ولم تبح أبدًا لأحد باسمه. كل ما نعرفه عنه هو أنه الشخص الذي أقنعها بأن كل ما حصل في حياتها لم يكن إلا انجرافًا نحو المجهول، وضعه لها كل من مروا في حياتها، من المخرج الفرنسي إلى حبيبها السابق، وكل المخرجين والمنتجين في عالم المسرح والسينما. وهي، حتى تلك اللحظة، لم يكن لها أي قرار. أما المفاجأة الكبرى فهي أنها في الهند اتخذت قراراً أو نزل عليها وحي، على عكس كل أشكال الوحي التي تنزل على الغربيين في الشرق الأقصى حيث يعودون بأفكار التنور الروحاني والتخلي عن الماديات، فقد قررت أن هدفها هو أن تصبح مديرة أموال في شركة كبيرة في الولايات المتحدة.”
مديحة: “أنت تمزح!”
إلياس: “لا، لا يا عزيزتي. هذه هي القصص الحقيقية لبعض الناس الذين يعيشون خارج فقاعة حي وادي النسناس.”
مديحة: “أنت تقصد قصص المجانين!”
إلياس: “لا يا مديحة، قصة رلى ليست قصة مجنونة، بل هي قصة إنسانة تعيش الحياة بكل معنى الكلمة. أما نحن، ومن ضيق مجتمعنا، فنقلل من شأن كل من لا نستطيع استيعاب حريته وعظمة روحه وكيانه. يا مديحة، رلى هي إلهام لكِ… تقبليها ككنز في حياتك!”
مديحة، وملامح الانزعاج أو الغيرة باتت تبدو واضحة على وجهها: “حسناً، وما الذي جاء بها إلى هنا بعد نجاحها في نيويورك؟”
إلياس: “في نيويورك برزت مجددًا، وفي السنة ما قبل الأخيرة من تعليمها في مجال التمويل، قُبلت في شركة ليمان براذرز التي تبنتها ودعمتها لدفع أقساط التعليم حتى تخرجها. ومن هناك، وعلى مدار خمسة أعوام، ترقت في السلم الوظيفي حتى أصبحت مديرة إدارة المخاطر في الاستثمارات في دول الخليج. فمهاراتها في التمثيل، وحضورها المليء بالكاريزما، وخبراتها المتعددة، ومعرفتها باللغات والثقافات، صنعوا منها مديرة على طراز الحلم الأمريكي بامتياز. ولكن لنختصر قصة طويلة، أقول إنها قررت أنه لا بديل لحيفا في قلبها، وأن تكون سيدة قرارها، فاتخذت قراراً جديدًا بالعودة إلى مسقط رأسها، حيفا.”
مديحة: “لتخدم بلدها؟”
إلياس، متمزقًا من الضحك: “لا، بل لتخدم نفسها وتعيش سعيدة كما يروق لها. خدمة البلد هذه نتركها لأصحاب الشعارات وللمنتسبين للأحزاب القومية، أو على الأقل ليس لرلى.”
“أتذكرين كعكات “أم الأمير” التي تناولناها في منزلي؟ إنها من صنع مقهى رلى…”
مديحة: “لكن كيف؟ عندما كنت تقول أم الأمير، كنت أظن أنك تتحدث عن خالتك…”
إلياس، ضاحكًا: “لا، لا، “كعك أم الأمير” هو “براند”، أي علامة تجارية… ماركة سرية! اخترعناها في هيئة الصولجان المقدس الإبداعية كفكرة تسويقية نستهدف فيها الأغنياء العرب الجدد في حيفا والجليل، من أطباء وموظفي قطاع الهاي تك، وأصحاب الأعمال والمهن الحرة، الذين أصبحوا أثرياء في العشرين سنة الأخيرة، ويبحثون دوماً عن كل ما هو جديد وغالي الثمن. فالكعكة التي تُباع في مقهى رلى بـ100 شيكل تُباع تحت علامة ‘أم الأمير’ بـ350 شيكل على الأقل، وقد تصل بعض الأنواع إلى ثلاثة آلاف شيكل للكعكة الواحدة. وفوق هذا كله، لا توجد إعلانات أو أي صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي باسم “أم الأمير”. بل الزبائن هم فقط من يحصلون على الرقم السري للطلبيات من أصدقائهم الأغنياء الجدد مثلهم.”
“هكذا أصبح كعك أم الأمير علامة نجاح مادي ومجتمعي لدى هذه الطبقة من المجتمع التي تشعر بتميزها فقط لمجرد حصولهم على الرقم السري الذي يخولهم لطلب كعك أم الأمير، ليشبعوا شعورهم بالحاجة للتأكيد الخارجي لنجاحهم في الحياة. هل تصدقيني إذا قلت لكِ إنني سمعت زبونة في مقهى دوزان تتوسل إلى فادي لكي يعطيها رقم “أم الأمير”، وهو يقول لها: “حبيبتي، أنا لا أعرف الرقم، ولكن أعرف صديقة لي قد تعرفه، ولكن يجب أن تقدمي لها سيرتك الذاتية ورسائل توصية من شخصين مقربين لك من مركزك الاجتماعي الرفيع لكي يتم النظر بطلبك للانضمام إلى هذا النادي المرموق.”
مديحة: “أقسم بالله الناس قد جنت! والله عبقرية رلى!”
إلياس، مبتسمًا ابتسامة “الثعلب الاستراتيجي”: “صحيح، رزق العاقلين على المساطيل… لكني رويت لكِ هذه القصة لأقترح عليكِ عملاً جانبياً جديدًا يناسب وقتك بعد العمل وحبك لصنع الحلوى. الطلبات تزداد بشكل ملحوظ خلال الأعياد ومواسم الأعراس في الصيف، وهذا يتناسب مع عطلتك كمعلمة. هذا العمل سيوفر لك فرصة لزيادة دخلك وتطوير شخصيتك، خصوصًا تحت إشراف شخصية ملهمة مثل رلى، الخبيرة في إدارة الأموال، ما سيمكنك من تعلم الكثير، وهي تحتاج بالفعل لمن يساندها لأنها تدير عدة مشاريع تجارية وفنية، منها إدارة مسرح الأحلام في شارع أبو النواس.”
مديحة: “واو، أتمنى أن يتحقق هذا، مع أنني أشعر ببعض التردد. ماذا سيقول عني مدير المدرسة وأهالي الطلاب؟”
إلياس: “هذا ليس من شأنهم، وأنتِ سيدة نفسك خارج أسوار المدرسة بعد ساعات الدوام. وبالنسبة لرلى، أعدك أنني سأعطيها رقمك، وستتواصل معك بالتأكيد لأنها بحاجة إلى مساعدة. أما الآن، فلنلخص ما وصلنا إليه من إنجاز في إدارة عالمك المادي.”
مديحة: “هذا رائع، لقد شوقتني! ولكن قبل أن نتقدم، هناك سؤال يدور في رأسي منذ بداية الليلة وأريد أن أوجهه لك قبل أن أنسى. قالت لي أمي إنها تفضل أن أدخر التوفير الشهري بقيمة 1500 شيكل في “صندوق الطوارئ” في البيت عوضاً عن حساب التوفير البنكي، ما رأيك؟”
إلياس: “سؤال رائع. هناك عدة أسباب تدفعنا إلى وضع أموالنا في صندوق استثمار بنكي. أولها وأهمها، أن الأموال في البنك محمية من السرقة في أي وقت. أما على المدى البعيد، فإن الفوائد التي تكسبها الأموال المستثمرة في البنك تساعد في عدم فقدان قيمة المال، خاصة في هذه الأوقات التي يزداد فيها ارتفاع تكاليف المعيشة ويتسارع التضخم المالي بشكل لم يسبق له مثيل في آخر عشرين عامًا. فنسبة الفائدة تساعد على تعويض قيمة المال المفقودة بسبب التضخم.”
مديحة: “كيف؟”
إلياس: “هل الـ100 شيكل التي أمسكها في يدي الآن لها نفس القوة الشرائية مثل قبل عشر سنوات؟ بالطبع لا، فقد لا تخرجين اليوم من السوق بنصف ما كنتِ تشترينه بنفس المبلغ قبل عشر سنوات. فمثلاً، لو تركنا هذه المئة شيكل “تحت البلاطة” في البيت قبل عشر سنوات، لوجدناها كما هي، لكنها فقدت من قيمتها كثيرًا. بينما لو كانت في حساب توفير بفائدة سنوية 4.5% طوال هذه الفترة، لأصبحت 155 شيكل. إنه نظام معدل الفائدة المركبة، وهو يحمي من التضخم.”
“أما الخلاصة يا مديحة فهي كالتالي: لتحقيق نجاح مادي كبير ومستدام، أنصحكِ باعتماد استراتيجية “الوسطية”، أو كما أسميها “Strategic Mediocracy”. هذه الاستراتيجية تعتمد على الصعود بخطى ثابتة نحو أهدافك، دون الانجراف وراء محاولات الثراء السريع أو اتخاذ القرارات المتسرعة. يكمن النجاح الحقيقي في وضع خطط طويلة الأمد، تكون واضحة ومستدامة، وقادرة على مواجهة التقلبات والتحديات دون أن تفقدي البوصلة. لكن لتحقيق هذه الاستراتيجية بنجاح، لا بد من السيطرة على النفس وضبط الرغبات، فالنجاح المادي يحتاج إلى صبر وثبات. وأيضًا، للسيكولوجيا دور محوري؛ إذ إن القدرة على التعامل مع المشاعر، وتنظيم الأفكار، والبقاء على المسار بخطوات هادئة ومدروسة، هي عوامل أساسية لنجاح هذه الاستراتيجية. هكذا تُبنى الثروة، وهكذا تتحقق الأهداف، درجة بعد درجة، بخطوات حكيمة وثابتة.”
النهاية.
أما عن “هيئة الصولجان المقدس الإبداعية التسويقية”، فسوف أحدثكم عنها في سلسلة مقالات جديدة ستفتح أمامكم عوالم لم تروها من قبل. كل ما يمكنني أن أقول الآن هو أن رلى هي الكاهنة التي تقود الهيئة، محاطةً بشخصيات غامضة كـ “الراهب”، و”الأبونا”، و”القسيس”. شخصيات مليئة بالمفاجآت، تحيا كل منها حياةً سرية، وتضفي على الهيئة طابعاً من الغموض والدهاء، وتخفي وراء أسمائها أسرارًا وحكايات تفيض بالإثارة. ترقبوا المزيد، فالقصة بالكاد بدأت، والأحداث القادمة ستغير كل التوقعات.
تابعونا.





