الاستقامة إلى الأبد بقلم الشيخ رشاد ابو الهيجاء إمام مسجد الجرينة ومأذون حيفا الشرعي

مراسل حيفا نت | 26/09/2024

 

لا يخفى على أحد أننا نعيش ظرفًا قاسيًا وأليمًا، وسيترك أثرًا كبيرًا في نفوس الناس، وسيكون له تأثير عالمي وإقليمي لم تتضح معالمه بعد. ورغم مرارة الحال وصعوبة الموقف، لا بد لنا أن نبقى ثابتين على إيماننا بالله، وأن لا نتنازل عن منهج حياتنا المستمد من وحي السماء. فنحن نوقن بأن الله له في كل أمر حكمة، فهو الحكيم العليم.

أما دورنا فهو الثبات، ويعزينا في ذلك الخطاب القرآني الموجه بشكل خاص إلى رسول الله، فقد أمره ربنا، ولا يأمر إلا بالخير لعباده، فقال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). فهذا خطاب خاص لرسول الله وعام لمن اتخذه قدوة. والله يقول: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). وقد تكرر هذا النوع من الخطاب في كتاب الله، حيث أمره ربنا بأن يبقى على الطاعة والذكر فقال: (وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا).

وفي وقت المحن، لا يسعنا إلا التوسل بالله، وأن نحسن التوكل عليه. وهذا ضرب من التضحية لا يقوى عليه إلا العظماء، الذين سيمكنهم الله، كما قال في كتابه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). هؤلاء هم الذين عظموا ربهم في نفوسهم، وترجموا هذا التعظيم بمسيرة حياتهم. وقد أدركوا معنى الإحسان، وهو: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

وجاء في الحديث القدسي الذي رواه رسول الله عن ربه أنه قال: (مَن عَادَى لي وَلِيًّا فقد آذَنتُهُ بالحرب، وما تَقَرَّب إليَّ عَبدي بشيء أَحَبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عَبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحبَبْتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصِر به، ويده التي يَبطِش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه).

وتتطلع كثير من خلق الله إلى نتيجة الاستقامة والمداومة على الطاعة، حيث يركنون إلى ركن شديد. وهذا الذي يعتمدون عليه مع استقامتهم لن يُخذلهم، وسيمكن لهم في الأرض لأنهم أولياء الله، وأولياء الله هم الفائزون. قال تعالى: (أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

حتى يشمل خلق الله في هذا التمكين، عليهم أن يرجعوا إلى خالقهم، وينبذوا كل مظاهر الفساد والإفساد في هذه الأرض، لأن نتيجة الفساد (حالقة الدين). والله يؤكد لنا أن معظم هموم ومشاكل الناس سببها البعد عن ذكر الله. قال تعالى: (وَمَن أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).

واعلم أن الله يحب أن ترجع إليه، لذا سيسهل لك الطريق إذا صدقت في نيتك. قال رسول الله فيما يرويه عن ربه: (إذا تَقَرَّب العبد إلي شبرًا، تَقَرَّبتُ إليه ذراعًا، وإذا تَقَرَّب إلي ذراعًا، تَقَرَّبتُ إليه باعًا، وإذا أتاني يمشي، أتيتُهُ هرولة).

وكما قدم لنا رسول الله أسوة حسنة، فقد أدرك أهمية الاستقامة والثبات، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه. فقالوا له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا).

وثبات المرء واستقامته على منهجه دليل عزة وقوة ومنعة. فمن اتصف بهذه الصفات كان الأحب إلى الله بعد الإيمان به وتقواه. قال رسول الله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير). احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان.

والقوة هنا متعددة الأوجه: فمنها قوة البدن، ومنها قوة العقل، ومنها القوة المادية، ومن أهمها قوة الإيمان بالله وحسن التوكل عليه. ولا غرابة أن الرسول يقول: (حُفَّتِ النار بالشهوات، وحُفَّتِ الجنة بالمكاره). وهذا الحديث النبوي يشير إلى أن الجنة لا تُنال إلا بالمجاهدة والصبر أمام التحديات ومعكرات صفو الحياة.

ومن لم يجاهد نفسه بالطاعة، وركن إلى شياطين الأنس والجن، يتحكمون به ويضبطون سلوكه وفق شهواتهم، فإنه لن ينجو من النار، لأن النجاة منها لا تكون إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وهذه أفضل طريقة لتزكيتها. قال تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). فمن زكى نفسه استحق بشرى رسول الله القائلة: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك).

والصحابة رضوان الله عليهم إذا قصر أحدهم بجانب الله أو أخطأ، بادر بعمل يصلح ذلك. فعن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين. لئن الله أشهدني قتال المشركين، ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني الصحابة) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين). ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع؟ قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم. ووجدناه قد قُتل ومُثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *