أقبل الليل، وعمت السكينة على شاطئ حيفا كرفرفة روح الخالق في البدء على البسيطة، وبدا الإحساس ينتقل من ثقل الجدية إلى الرهف.
في لحظات من التأمل، سرحنا في ألوان السماء عند الغسق، وأنا مدرك أن مديحة قد عملت بكل نصائحي من تبديل السيارة وإعادة تدوير الديون. لقد بدأت في التخلص من جبل الهموم الذي كان يثقل كاهلها، وبصيص نشوة الإنجاز لامس قلبي، فقلت في نفسي: “حان وقت التلخيص”، لكني لم أنبس بكلمة بعد.
قاطعت مديحة الصمت قائلة:
“إلياس، أريد أن أشاركك أني تركت تفاصيلي في موقع شركة لتعليم التداول، بعد أن رأيت إعلانًا لها على الفيسبوك. الآن بعدما بدأت التخلص من ديوني، أريد أن أدخل عالم التداول في البورصة العالمية. إلياس، مع احترامي لك، في أيامنا هذه التداول هو سر النجاح والغنى.”
بابتسامة متعالية، قلت:
“برافو… من الخوف إلى الطمع بسرعة الضوء!”
رفعت مديحة جفونها وحاجبيها فوق وجهها القمري، وبحلقت بي:
“أتعلم أن أسلوبك مستفز؟! أنا لا أعلم لماذا يجب أن تحدثني بهذه الطريقة، مع احترامي لك!”
قلت:
“مديحة، عزيزتي، ما هي البورصة العالمية؟“
وعلى وجهي ذات الابتسامة المستفزة.
قالت مديحة:
“هي البورصة! لا أظن أنني أتكلم لغة غريبة! البورصة هي البورصة، ولا يوجد غيرها!”
ثم أضافت:
“أما الآن، فأريد الحساب!”
قلت:
“مديحة، عزيزتي، خذي نفسًا عميقًا، وصلي على النبي بجاه عيونك الحلوين.”
فقالت مستنكرة:
“ولك الجرأة أن تتغزل بعيوني أيضًا…”
قلت:
“مديحة، لا يوجد شيء اسمه البورصة العالمية. هناك أكثر من ستين بورصة كبيرة في دول العالم.”
ثم رفعت يدي وناديت النادل:
“كأسين من الماء المثلج من فضلك.”
وتابعت قائلًا:
“أما هذه الشركة التي تزعم أنها أكاديمية للتداول، فما هي إلا شركة نصب واحتيال. أصحاب هذه الشركات يعملون على جذب الزبائن بقاعدة بسيطة: الخوف والطمع توأمان. يعلمون حتمًا أن الطمع أداة تسويقية رهيبة، وهي بمثابة قنبلة موقوتة في النفس البشرية، خاصة في عصرنا المادي بامتياز. وما عليهم إلا أن يشعلوا الفتيل فينا من خلال حملات التسويق المغرية التي تحمل عنوان: ‘تعال وتعلم كيف تصبح ثريًا وبسرعة البرق’. في ذات الوقت، يعملون على إشعال الشعور بالخوف من إضاعة الفرص. براعة في التسويق، دون أي اهتمام بمصالح وأولويات البشر الحقيقية.
لا يمكن أن يكون هناك مستثمر ناجح في الحياة إلا إذا تخلص من الخوف والطمع. وأنتِ يا مديحة، في بداية الطريق، ولا يجوز أن تنطلقي بهذه السرعة من حالة الرعب من الديون ورهبة الإفلاس، إلى حالة الطمع في أحلام اليقظة بتحقيق الغنى السريع، وما زلتِ في بداية الطريق في ثقافة إدارة الأموال وفهم الاقتصاد.”
عندها قاطعت حديثنا ضحكة عالية شبه معتمدة، امتزجت فيها كلمات غير مفهومة من الطاولة خلفنا، حتى سمعت أخيرًا السيدة من خلفي توجه الكلام لنا قائلة:
“اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم!”
التفتُ فإذا بها صديقتي القديمة رلى من أيام الثانوية. دون “أحم ولا دستور ولا حتى مرحبا”، واصلت قائلة:
“إلياس يا إلياس، “على شو شايف حالك” على بنات الناس؟ هل نسيت نفسك في أول الطريق وأغلاطك المأساوية؟ عزيزتي، إلياس قبل عشر سنين لم يكن يعرف ‘الخمسة من الطسمة’ في عالم الأموال.”
ضحكت وقلت:
“رلى، ربما زودتيها قليلًا، ليس لهذه الدرجة…”
ثم بابتسامة عريضة أضفت:
“نعم، قبل عشر سنين لم أكن خبيرًا، لكن لم أكن مأساويًا كما وصفتني. ‘ضل ناقص’ تقولي إني كنت حمار وخلصنا!”
وانفجرنا أنا ورلى ضاحكين معًا.
رلى –الممثلة الشهيرة التي عرفتها كل فلسطين بنجاحها الباهر بعد أن حققت نجومية عالمية في التمثيل على مسارح نيويورك ولندن، وفي عدة أفلام محلية وأوروبية حققت انجازات غير مسبوقة خلال فترة قصيرة لم تتعدَّ بضع سنوات، من حيفا إلى قمم العالمية. حتى توقف كل هذا النجاح فجأة، وكان عنوان هذه الفجأة الحبيب الإسباني اليخاندرو. ومن أوروبا الى نيو يورك ومن عالم الفن والتمثيل الى عالم الإدارة. رلى يا عزيزي القارئ وما أدراك ما رلى.
وقالت: انتظروني، يجب ان أذهب سريعا للفندق المجاور لكي أشرف على ترتيب الكعك قبل بداية الاحتفال وأعود اليكم. أما إذا غادرتم قبل عودتني فيسرني ان أقول تشرفت بمعرفتك مديحة. والياس نحن سوف نلتقي في لقاء “هيئة الصولجان المقدس” يوم الجمعة المقبل وانطلقت كأنها على بساط الريح.
مديحة:
“طلعت من خرجك” وابتسمت تلك الابتسامة الكبيرة التي شملت وجهها بالكامل، وكأن شفتيها رُبطتا بخيط خفي بين طرفي وجهها.
حضرتي:
يا عمي هذه رلى التي لن تتكرر …تعلمين يا مديحة أظن اننا على وشك بداية صداقة بينك وبين رلى قد تغير حياتك.
مديحة:
كيف؟ ...
هذه المقالة هي الجزء الخامس وقبل الاخيرلسلسلة مقالات مرتبطة نتناول فيها قضية الديون وإدارة الأموال عبر سرد قصة مديحة. في هذه السلسلة سوف نتناول موضوع الخروج من الديون، سيكولوجيا التصرف المادي وعلاقته بإدارة الأموال، أهمية التخطيط، ومصطلحات أساسية في الاقتصاد مثل سعر الفائدة والتضخم.