ذكرى المولد النبوي
نحتفي في شهر ربيع الأول من كل عام بذكرى مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والتي ستصادف هذا العام يوم الأحد 15/09/2024. واحتفاؤنا به يأتي من باب الإجلال والاحترام لشخصه الكريم، لأنه مبعوث من ربه رسولاً هادياً ومبشراً وسراجاً منيراً. ولا نحتفي بهذا المولد من أجل الولائم أو العزائم، بل من أجل أن نتعلم مغازي الرسول كما كان يفعل أصحابه، الذين قالوا: “كنا نعلم أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم الآية من القرآن.”
وعند تعلم المغازي، نحولها إلى منهاج حياة، لأن الله تعالى قال: “وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.” عظَمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تكمن في مولده فحسب، بل تكمن في الرسالة التي جاء بها، فقد بُعث “رحمةً للعالمين.”
والناظر في حال أهل مكة عند بعثته يجد العجب؛ فقد كانوا يتفاخرون بالأنساب، يأكل القوي منهم الضعيف، وتُقتل البنات خوفاً من العار أو حتى كي لا تأكل من مال والدها. وكانت هيمنة الفرس والروم واضحة في جزيرة العرب. فلما بُعث الرسول، رسّخ القيم الإنسانية التي فقدها العرب قبل الإسلام، والتي يفتقدها جزء لا يُستهان به من الأمة العربية في زماننا هذا، لبعدهم عن رسالة النبي. فقد جعل نصرة المظلوم من أساسيات دعوته، وقال: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.” فقالوا: “هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟” قال: “تَحجُزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره.”
وقد شارك الرسول قبل الإسلام في حلف الفضول، وكانت غاية هذا الحلف نصرة المظلومين. وهذا الفكر الجديد ألغى العصبية الجاهلية التي كانت توجب نصرة ابن القبيلة ولو كان ظالماً. ومن المؤسف أننا نرى عودة إلى الفكر الجاهلي والعصبية الجاهلية التي قال عنها رسول الله: “دعوها فإنها منتنة.” وقال: “إن الله قد أذهب عنكم عُبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب.”
أما عن وأد البنات، فكان شيئاً طبيعياً في حياتهم، فجاء الرسول ليعلن التحول الجذري في هذا الفكر، باعتبار أن البنت والصبي كلاهما نعمة من نعم الله. بل ولإزالة هذه النظرة تماماً، قال رسول الله: “من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن وكساهن من جِدَته، كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة.”
وببعثته، قطع الرسول حبل الهيمنة الخارجية من الدول العظمى في ذلك الزمان، وبدأ بمراسلة ملوك مصر وفارس والروم والحبشة، داعياً إياهم إلى الإسلام. بعضهم رأى في هذا الأمر إهانة، مثل ملك فارس الذي قال لمبعوث رسول الله: “أنتم أكلة الجعلان.” أما باذان، فقد استخف برسالة الرسول وبعث برجلين ليحضراه حياً أو ميتاً ليسلماه لملك فارس. ولكن قدرة الله كانت فوق كل شيء، فملك فارس الذي طلب رأس الرسول انتهى عهده بمقتله على يد أحد أبنائه.
وهكذا دواليك، حتى أصبحت جزيرة العرب، بفضل بعثة رسول الله، النموذج الذي يفتقده العالم اليوم رغم كل التشريعات الأرضية. فالرسول رسّخ مفاهيم عقائدية يثاب عليها فاعلها ويعاقب عليها تاركها، بينما النظام العالمي الحاضر، رغم ما يعلنه من قيم، ما زال متمسكاً بفكر الاستعلاء والتجبر.
النظام الطبقي لا يزال قائماً على مستوى الأمم والشعوب، رغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا فضل لعربي على عجمي.” وجعل الناس سواسية كأَسنان المشط، ورسّخ فكر الحقوق والواجبات. وكيف لا، والقبطي الذي جاء إلى عمر بن الخطاب ليقتص من ابن عمرو بن العاص، قد تم تمكينه من أخذ حقه. والرسول كان يقول: “من آذى ذمياً فقد آذاني.”
فرسول الله أحدث انقلاباً شاملاً في الفكر والسلوك، وأثر برسالته على العالم بأسره. واستطاع بحكمته، وبوحي من السماء، أن يحوّل الفكر الجاهلي والقبلي ويرتقي به إلى أعلى المستويات، ليصير المجتمع العربي نموذجاً للأمة.
ولا شك أن هناك من أنصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد بعظمة ما جاء به. قال المفكر الألماني دوري بارت: “كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، في فساد، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، وجمعهم في كيان متجانس.”
وقال هنري سيروي: “لم يغرس محمد في نفوس العرب مبدأ التوحيد فحسب، بل غرس فيها المدنية والأدب.”
أما الباحث الأمريكي جورج دي تولدز فقال: “إن من الظلم الفادح أن نغض البصر عن حق محمد والعرب على ما علَّمونا من التوحش قبل بعثته، ثم كيف تبدلت الأحوال بعد إعلان نبوته. وما أورثته الديانة الإسلامية من النور في قلوب الملايين ممن اعتنقوها بشوق وإعجاب من الفضائل، لذا فإن الشك في بعثة محمد إنما هو شك في القدرة الإلهية التي تشمل الكائنات جمعاء.”