رسالة الأب الى الأبناء ثلاث سنوات في خدمة الأبرشية”تعال وانظر”

مراسل حيفا نت | 28/02/2009

   

ثلاث سنوات في خدمة هذه الأبرشية العكاوية ليل نهار، دون استراحةٍ ولا هوادة وما زال إقتناعي " الويل لي إن لم أبشر بالمسيح"، إني لا أعرِف بينكم سوى المسيح والمسيح مصلوبا". أذكر مِراراً شعاري الكهنوتي وأتساءل هل أعيش بملء ما اتخذَت ‏حينئذٍ شعاراً لكهنوتي وهو: "إنا لا نَكْرِزُ بأنفسِنا بل بيسوعَ المسيح رباً، وبأنفسنا عبيداً لكم مِن أجل يسوع". لذلك دعوتكم جميعاً، وأولاً دَعوْتكم أنتم إخوتي الكهنة لكي نسير إلى العمق، إلى العمق الإنجيلي وإلى العمق الروحي. لكي نسير إلى العمق الذي يحمِلنا إلى صحبةِ ومصاحبةِ ورفقةِ السيد المسيح. نسير إلى العمق مع المسيح فنمشي معه على المياه دون خوفٍ أو وجلٍ. نسير معه على المياه التي إذا سار عليها غيرُنا يغرق. ونسيرُ معه بثقةِ الأطفال بصحبةِ الوالدِ المحبِ والطفلِ المشغوفِ بحبِهِ ‏وبثقتِهِ لأبيه.

أثناء سيرنا مع المسيح لا نتساءل فيما إذا كنا فعلا سائرون على المياه أو على اليابسة؟ أو هل نحن حقيقة سائرون؟ ولكن نعيش خبرة السير بصحبةِ المسيح. وإن كان الله معنا فمن علينا؟ والسؤال الحق هو، هل فعلاً نحن سائرون معه، وراءه؟ أم بالأحرى نسير أمامه. وإذ إنه هو النور وسَيّرْناه وراءَنا، وسرنا أمامه كأننا نحن وليس هو الطريق والحق. إذا سار المسيح وراءَنا، يعكس نورَه علينا ولا نعود نرى سوى ظلِنا، خيالنِا الذي نأخذه وكأنه الحقيقة. ونُصبِح عمياناً، نعتبر الأطياف هي الحقيقة. فنكون مثل الشعب السالك في الظلمة ولم يبصر نوراً عظيماً.

أما إذا حاولنا اختبارَ قدرةِ المسيح ومصداقيتِه في مجابهة الصعاب كما قال له بطرس الرسول :إن كنت أنت هو، فَمُرْني أن آتي إليك على المياه، فقال له تعال!

أليس هذا ما قاله السيد المسيح لكل واحد بيننا حين دعانا كما دعا صموئيل؟ دعانا قبيل رسامتنا الكهنوتية قائلاً لكل فرد بيننا: تعال إلي، تعال اتبعني. وأتينا وبدأنا السير على المياه. ونتابع السيرَ على المياهِ إلى أن ننسى أننا نرافق المسيح ونعمل مشيئته. ونحاول التمرد على الحقيقة كوننا بدونه لا نستطيع شيئاً. ونبدأ نتساءل: كيف يمكن هذا أننا نسير على المياه؟ وكأننا نسير بقوانا الشخصية متناسين حضورَ ومرافقةَ السيد له المجد. وهذه المرافقة هي الشرط الأساسي للسير على المياه كأنما على اليبس. عندئذٍ نبدأ نشك ومع الشك في مرافقتنا للمسيح نبدأ في السقوط إلى أسفل. فإننا نغرق في زيغاننا، ونتوه في كِبريائِنا. ويستمر غرقُنا عميقاً في المياه إلى أن نستنجد به قائلين :"يا رب إني أغرق، فخلصني". ألسنا اليوم بحاجة إليه تماماً كما كان بطرس وهو يغرق، نحن بحاجة إليه ليأخذ بيدنا وينتشلنا من الغرق، ويقول لنا:"يا قليل الإيمان لماذا شككت؟" لماذا شككت؟ كم مرة نشك في نجاعة عملنا الرسولي؟ كم مرة نتساءل عن مفاعيل دعوتنا الكهنوتية؟ ما هو السرّ العميق في مثابرتِنا على العمل الرعوي؟ هل تقلصَتْ حياتُنا وتقزمَت قامتُنا حتى أصبحنا نقوم بطقوسٍ جوفاء وبمراسيمَ اجتماعيةٍ لا روحَ فيها، ولكن لا بد منها؟ أم هنالك بُعْدٌ روحاني نفساني، بُعْدٌ إلهي، يدفعنا إلى الجسارةِ بقوةِ الروحِ القدسِ وإلى الجرأة على تحويل الخبزِ والخمرِ إلى جسد الرب يسوع وإلى دمه المقدس. هل أصبح القداس الإلهي مجرد طقس ديني فولكلوري، نجمع خلاله شرذمةً مِن أبناء رعيتِنا ونعزي نفسَنا بوجود 5 أو 10% من أبنائنا، ونبرر ذلك بأن الوضع نفسه مشابه في كل مكان؟ أهكذا فَعَلَ أباؤنا في فجر المسيحية؟ كيف قلـَبُوا الإمبراطورية الرومانية من الوثنية إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد؟ هل ندغدغ عواطفَنا باليسير الموجود من المؤمنين؟ وننسى أن لدينا غالباً زهاء تسعة وتسعين من الخراف ما زالوا خارج الحظيرة؟ وينبغي لنا أن نخرج لجمعِهم لكي تصبح رعية واحدة وراع واحد؟ هل اعتدنا أن نعيش عجائب الأسرار المقدسة وقد أفرغناها من ميزتها الأولى ومن مضمونها الروحي والإلهي: أي كونها تطبيقُ خطة ِ الله في خلاص البشر؟ ونحن نحقق هذا الدور الإلهي. الويل لنا إن لم نبشر بالإنجيل. إني أحث نفسي وأحثكم أيها الكهنة الكرام والأبناء المحبوبون أن نتعمق بما نُرنِمُهُ أمام القربان المقدس قائلين. أعجب العجائب كلها أن يُرى الإله بجسد وأعجب من هذا كثيراً أن يُشاهدَ على الصليب معلقاً وأما مجموعُ العجائب كلها فهو وجوده الفائق الإدراك تحت الأعراض الحسية. حقاً أيها المسيح الإله لقد صنعت بهذا السرِ العظيم: ذكراً لعجائبك كلها.

شركتُنا أيها الإخوة والأخوات الكرام تتمحور فيما بيننا حول ثوابتِ الحياةِ الجماعية منذ بزوغ شمس العدل المسيح إلهنا في الجليل، في جليلنا: "المواظبة على تعليم الرسل والشركة في الإيمان وعلى كسر الخبز والصلاة"، إذ كانوا يلازمون الهيكل بنفسٍ واحدةٍ ويكسرون الخبز في البيوت ويتناولون طعامهم بابتهاجٍ وسلامةِ قلب ويسبحون الله وينعمون بالحظوةِ عند الشعب كلِهِ.

قوةُ التلاميذ التي طالما فقدناها ولم نعد نمسحُ أية دمعة من أية عين، تكمن في القوة التي حافظ عيها الرسول بطرس هامة الرسل حين تفرّس في المُخَلعِ المطروح أمام الهيكلِ يستعطي خبزَه قوتاً ليومِه، ولم يكن عنده/فيه أي طموحٍ أكثر أو أهم من الحصول على لقمة العيش اليومي المادي ليقوت جسده العليل، فرآه بطرسُ وسمعَه يستجدي: فتفرس فيه وقال له:"لا أملك فضة ولا ذهباً ولكني أعطيك ما لدي: باسمِ يسوعَ المسيحِ الناصري أقول لكَ، قمْ وامش". باستطاعتنا أن نفعل كما فعل بطرس. ولكن علينا أولاً أن نطرح عنا جانباً كل هم دنيوي، أن نكنُزَ لأنفسنا كنوزاً في السماء، والحاجات المادية كلها تُزاد لنا. أطلبوا أولاً ملكوتَ السمواتِ وبِرَه، وهذا كلُه يزاد لكم.

ثلاث سنوات وأنا بينكم أفحصُ ضميري يوماً بعد يوم وأفتح لكم جميعاً القلبَ والبيتَ. ثلاث سنوات وأنا أُذَكِرُكم أنه ما دام هنالك ضوء في بيتي فإني أكون بانتظارِكم وأدعوكم إلى الدخول. لا بيتَ لي الآن ولن يكون لي بيتٌ إلا في جوار الله تعالى. أما المطرانية فهي بيتُ الجميع ومرجعُ الجميع، لا تكونوا أو تستمروا في الانطباع الذي سادَ، أو تغذَوا رواسب الماضي أنكم غرباء على بيتكم. أنتم أصحابُ البيت، المطرانية هي عنوانٌ لكم، لا تنسوا عنوانكم، ولا تهجروا بيتكم.

ثلاث سنوات تعرَفـْْتُ خلالها على الأبرشية وعلى الكهنة وعلى الكثيرين من أبناء الأبرشية الكرام، تعرفتُ على عذْبِها ومُرِها. على حلوها وعلى آسنِها، على آمالِها وعلى صعوباتها وعثراتها، على نورِها وعلى ظلامِها، وجميعها كُثُـر في كنيستنا. ورغم الصعوبات العملاقة والديون المتراكمة ورغم رواسب الماضي الكثيفة فإن كنيستنا تعيش في سلام، تنمو وتسلك في خشية الرب وتزدادُ نمواً بتأييد الروح القدس. فلا تفزعوا أيها الأحباء. أنتم القطيع الصغير وقد حسن لدى أبيكم السماوي أن يعطيَكم الملكوت. إن قوة الله التي تكمل في الضعف الإنساني، هي تُكَمِلُ كنيستنا وتتكامل فينا وفي ضعفنا. نعم إن كنيستنا مبنية على صخرة المسيح وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.

إني أرى قلوب الكثيرين مِن أبنائنا وبناتِنا تنبض تَرَقـُباً وتشتاق ولعاً وتصرخ مِن أعماقها متوسلةً وقائلة: "مارانا آتا" نعم تعال، أيها الرب يسوع  نعم، تعال. آمين.

ثلاث سنوات طالما استمعت لأفكاركم ولانتقاداتكم، لأحلامكم ولطموحاتكم ولنواياكم الكريمة الصالحة وغيرها، علمتموني كثيراً أيها الأبناء المحبوبون. دفعتموني إلى تنقية نفسي وضميري وتَعمَقتُ ببُعد تعاليم السيد المسيح. وقد فهمتُ أن الوقت لقصير جداً، وأكاد أقول إن الساعة قد قَرُبَتْ لملاقاة الله عز وجل. وفَقِهْتُ وذوَّتُ المقولة الشهيرة:"ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه." أصْبَحَتْ خيرات هذا العالم تافهة في عيني وغير مُغرية، والمزاجية تضر ولا تنفع. وفهمتُ أن الحكمة بالتأني والندامةَ في التسرع، وأن رأس الحكمة هو أن نقابل الشرَ بالخير. الحكمةُ في اللقاء مع الآخرين هي سماعهم والإصغاء إليهم والتعلم منهم. الويل لمن لا يصغي وفقط ينتظر كي يَصمتَ الآخرون ليدلى بإسهال من الكلام الفارغ، ولا رسالة لديه يشارك فيها أبناء رعيته أو إخوتَه الكهنة والعاملين في حقل الكنيسة المقدسة. طوبى لِمَن ينطق برسالته ولا يكثر الكلام بل يكون كلامه دون مواربة ولا تلون، بل نعم نعم، ولا لا.

لم تمرْ هذه السنوات الثلاثة على مياه الراحة، كانت أيام ألم روحي جدي، أيام تساؤل وارتباك، كانت أيام استغراب وقلق وهلع مما يحدث. اشتقت للعلاقات الشفافة الصريحة، وفهمت عمقَ قول المسيح فليكن كلامكم: نعم نعم، ولا لا. وكم كانت لحظات أخـْذِ القرار صعبة حين كانت تمس أحد الكهنة. كنت دائما أتمنى لو أجد الطريق للولوج إلى القلب المتردد وإقناعه أن علينا تغيير الوضع الذي ربما غرق فيه. وكنت وما زلت آخر من يحكُم على أخٍ كاهن. سألت الله وضميري لماذا يجب عليّ أن أتكلم وأن آخذ القرار؟ والجواب واضح:"الويل لي إن لم أبشر بالمسيح."

*****

ثلاث سنوات هي مدة طويلة تستلزم فحص الضمير، وأنا واقف أمامكم مُطرانُكم، أحْجُمُ عن تعداد الإنجازات الصغيرة أو الكبيرة التي أنجزت وتَمَتْ في هذه الفترة. لا أرغب في تعداد كمْ أعطانا الله أن ننجز من خير روحي ومادي هنا وهناك.لا يعود الفضل في الإصلاحات أو في الإنجازات إليّ أنا المطران، وإن كنت أفتخر هذا النهار فأفتخر بضعفي وبقوة الله التي عملت في حياتي لأكون لكم الأخَ الخادمَ والأبَ الروحيَ المحب.

ولكن أود أن أذكر أنه مهما فعلنا علينا أن نذكر أننا لسنا سوى بعبيد بطالين، وأن الكامل الوحيد هو الله عزّ وجل، ولا كامل سواه. لذلك أتوجه إلى جميعِكم، وإلى كلِ فردٍ بينكم وأنا لابس الحلةَ الأسقفية وبصفتي رئيس أساقفة عكا وحيفا والناصرة

سائر الجليل، أقفُ مُسْتَسْمِحاً منكم ومن كل مَن أكون قد أخطأت إليه أو أكون قد قصرّتُ في مساعدته أو لم أساعده كما كان يرغب ويتوقع من مطران يحب شعبه ويُكرم رعيته.

وأعيد وأذوّت رسمياً كلمة صلاة يا رب القوات حين نعلن أمام الجميع، وأنا أعلن رسمياً وبكل تواضع قائلا لكم: سامحوني واغفروا لي أنا الخاطئ، أيها الإخوة والأخوات القديسون، سامحوني ولا تبقوا على هامش الكنيسة بل تقدموا إلى العمق، تعالوا نحن بحاجة إليكم، تقدموا فأنتم الكنيسة. لا تتركوا بيتكم وتهملوا أنفسكم إننا بانتظارِكم لتبقوا معنا، لتعملوا معنا إننا بحاجة إليكم لنشر البشارة السارة، ولن يُعبئ أحدٌ مكانَكم ما دمتم خارج الكنيسة، فالكنيسة تبقى مفتقرة إليكم وبحاجة إلى حضوركم وإلى دوركم البناء. ليست الكنيسة مُلكاً للمطران بل لله، لا تنتموا إلى الكنيسة بفضل المطران أو الكاهن بل بفضل الجماعة التي يقودها المطران والكاهن معاً. نحن خُدام لكم من أجل يسوع، خَفِفوا عنا الوطأة، ومُدوا يدكم للمساهمة في البناء الروحي والاجتماعي. أنتم حجارة الكنيسة الحيّة، الكنيسة البشرية. تعالوا معنا، لأنه معاً نحن أقوى من أية عاصفة أخلاقية أو انفلاتيّة.

لقد أقبل علينا مُجدَداً زمنُ الصوم الكبير المبارك. والصوم لنا نحن المسيحيين هو زمنُ المسيرة المميزةِ الجماعية نحو القيامة، زمن التوبة والارتداد إلى الله. وكيف يكون ذلك؟

لماذا نصوم أربعين يوما؟ أو لا نصوم؟ نصوم لنتفرغ إلى الاهتمام بحاجاتنا الروحية والنفسية: مُذكرين أنفسنا أننا نختلف عن باقي الخلائق ونجوع ونعطش إلى غذاء غير الذي يُشبع الجسد. نحن جياعٌ وعطاشٌ إلى كل كلمة تخرج مِنْ فم الله. نصوم لكي نترك جانباً كلَ اهتمام دنيوي ونتفرغ للتأمل في الحياة الروحية. "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبِرَه وكل هذا- أي كافة الحاجات الدنيوية، تزاد لكم" . إن أباكم السماوي يعلم أنكم بحاجة إلى كل هذا. فلا تقلقوا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نلبس …أطلبوا أولاً ملكوت السموات وبره وهذا كله يُزاد لكم. ما أحمقَ الإنسان الذي يضعُ كل آماله وثقته بأمواله وبثروته البشرية. وكم بالحري نشفق على كاهن يضع كل أمله في المال، في الراتب الذي يتقاضى. ويضع آماله في الحصول على السلطة التي تنقلب إلى تسلّط أثيم، ويهمل كلمة المسيح القائل:"إن كل من يترك أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً من أجلي يكتسب أضعافاً في السماء. أو كلمة المخلص لنا نحن اليوم في أبرشية الجليل:"يا أحمق في هذه الليلة تؤخذ نفسك منك وهذا الذي جمعته لمن يكون؟"

 

نصوم لكي نقوّي في ضمائرنا محبتَنا وواجبَنا المقدس تُجاه الآخرين: إذا ذهبتَ لتقدم قربانك ووصلت إلى مذبح التقادم، وهناك ذكرت أن لأخيك عليك شيء، فاترك قربانك أمام المذبح، وارجع أولاً وصالح أخاك، ثم تعال وقدم قربانك ليكون مقبولاً لدى الله. وإلا فإن الله يقول لنا: قرابينكم مرفوضة، وصلواتكم بغيضة وبخوركم كريه وعيني لا تراكم وأذنيّ لا تسمعكم. لأنه كيف تَدّعي أنك تُحِبُ الله الذي لا ترى وأنت تبغض أخاك الذي ترى أمامك. يا مرائي اذهب أولاً وصالح أخاك ثم تعال وقدّم قربانك.

 

مع الجوع والعطش إلى كل كلمة تخرج من فم الله، صيامنا هو احترام الآخرين، احترام القريب. ومتى صمتم يقول السيد له المجد، فلا تكونوا مُعبٍسّين كالمرائين. فإنهم يُنَكِرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين . الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم. أما أنت فإذا صمت فطيّب رأسك، واغسل وجهك. لكي لا تظهر للناس أنك صائمٌ بل لأبيك الذي في الخفية، وأبوك الذي في الخفية هو يجازيك.

من أهم مبادئ صيامنا المسيحي أنه عمَلُ توبة وتقشف وارتداد إلى الله. ليس الصيام عملا ً اجتماعياً وفريضةً إلهية مثل العقائد الدينية. هذا العمل أي الصيام هو عملٌ شخصيٌ فردي بين الإنسان والخالق، أما نتائجه المباشرة فتنعكس على الإنسان الصائم وعلى تعامله مع الآخرين. فالمسيرة نحو القيامة هي مسيرة الصوم داخلَ الكنيسة، وهي إدخال الفرح إلى قلوب المؤمنين. لا علاقة للصوم الديني مع الصوم لتخفيف الوزن أو لصقل الجسد، إنما الصيام هو العمل الذي بواسطته نُطْعِمُ ونغذي الروح المتعطشة إلى الله، وذلك بالامتناع عن المأكولات المادية لتغذية جسدنا الذي أُخذ من التراب وإلى التراب يعود.

صيامُنا هو العمل الذي بواسطته نقدّس الكنيسة وذلك من خلال التركيز على الصلوات وعلى التوبة وعمل الرحمة. المسيح الإله صام أربعين يوماً ليُقدس العالم بصيامه، وليقدس الكنيسة بتقشفه. وبفضل صيامه اختار طريق الفداء إذ قال لنا:"ليس حبٌ أعظم من هذا أن يقرب الإنسان نفسه فداءً عن أحبائه." نصوم لكي نؤهَل للاشتراك مع المسيح في اختيار وفي تبني دورنا في خطة الفداء وفي خلاص العالم. ويجب أن يقودنا صيامنا عن الأكل والشرب(من نصف الليل إلى نصف النهار) إلى نفس النتيجة التي تبناها السيد المسيح بعد صيامه إذ اختار الطريق الضيق الذي لا يسلكه إلا من وُلِدَ من الله وهو طريق المحبة: ليس حبٌ أعظم من هذا، أن يُقرّب الإنسان نفسه قرباناً أو فداءً عن أحبائه.

استقم واتضع وسِرّْ مع الرب إلهك ، كما سار أدم وحواء، كما سار أخنوخ الصديق ونوح، وكما سار إبراهيم بصحبة الخالق. قم وانتصب واقتدي بإيليا النبي الذي كان واقفا باستمرار أمام الله عز وجل.

صيامُنا ليس عقيدة إيمان إنما هو وسيلة لتقوية إيماننا ولتطبيق تعاليم المسيح والإقتداء به، هو الذي أخلى ذاته أي أفرغ ذاته آخذاً صورة عبد، يجوع ويعطش ويصوم ويصلي. صيامنا هو وسيلة لتقوية إيماننا بالله وبأخينا الإنسان. والحصيلة الأولى من الصيام هي التواضع ونبذ القشور والتظاهر، الوداعة والتواضع كما كانت مريم أخت يسوع المصلوب المعروفة بمريم بواردي تقول لمن حولها:"إن في السماء توجد كل الرذائل مغفورة ولكن لا يمكن أن نجد الكبرياء في السماء. وكذلك في جهنم يمكننا أن نجد كل الفضائل محكوم عليها ولكن لا يمكن أن نجد التواضع في جهنم. أولـَم يردد السيد المسيح وما زال في أذننا:"إن لم ترجعوا وتصبحوا مثل الأطفال، لن تدخلوا ملكوت السموات؟" بواسطة الصيام المبارك إننا نصلب جسدَنا ونُبْرر روحنا بعلاقتنا المتجددة مع الله. هل نصوم أم لا نصوم، وكيف ومتى؟

 

الصيام مباركٌ ومنْتَظَرٌ من الجميع. الصيام ليس عقيدة بل ممارسة إذ هو وصية الكنيسة وليس من وصايا الله تعالى، كل من يستطيع أن يمتنع عن الأكل والشرب ليتفرغ للصلاة وقراءة الكتاب المقدس فليفعل ذلك مباركاً.

كل إنسان يتمتع بصِحّة جيدة مدعو إلى الصيام. ولكن كيف ننتظر من الصائمين قصرا طيلة السنة أن يمتنعوا عن القليل القليل الذي يقع بين أيديهم إبان الصيام المبارك؟ كيف يمكن أن نفرض الصيام على أطفال غزة المحرومين طيلة السنة من الأكل والشرب ويعيشون بأعجوبة من الله عزّ وجل؟

كل شخص كبير السن يُفْتَرَضُ أن يصوم، ولكن كيف نتخيل المريض بالسكري أو بأي مرض أخر أن يصوم وقد ضربته الطبيعة بصحته؟ إن الله يقول لنا :أُريد رحمة لا ذبيحة. لذلك أذكر كلمات المرحوم أبونا فرج نخله لسامعيه عن الصيام قائلا:"يا أخي إذا استطعت أن تصوم بارَكَكَ الله وإن لم تستطع الصيام باركك الله. إن لم تستطع الصيام لا تخف كُلْ، كُلْ كما شئت، كلْ كلَ يوم عجلاً كاملاً، ولكن لا تأكل أخاك."

وإن صمت فلا تنسى أنك تشترك مع كل المؤمنين بالمسيح بالمسيرة نحو القيامة، وصيامك هو الارتفاع مع المسيح على الصليب. نحن لسنا دين الصليب أو العذاب، نحن دين القيامة والارتفاع إلى السماء من حيث يأتي عوننا. الصليب مباركٌ لأنه يقودنا إلى القيامة، والعذاب مباركٌ إذا اشتركنا في عذابات المسيح الخلاصيّة.

أتمنى لكم ولكل واحدٍ منكم صياماً مباركاً ومسيرة نحو القيامة موفقة بالمثابرة بالفرح والسلام الداخلي. إبان الصيام ينوي راعي الأبرشية زيارة كل الرعايا للاشتراك مع الجميع في صلاة يا رب القوات وصلاة المدائح لوالدة الإله القديسة، وتكون هذه المناسبة وقتاً مميزاً لتوطيد العلاقة بين الرعية والراعي.

صيام مبارك أيها الأبناء المحبوبون،

سيادة المطران الياس شقور- رئيس أساقفة عكا،حيفا،الناصرة،وسائر الجليل للروم الملكيين الكاثوليك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *