كن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا
بقلم الشيخ رشاد ابو الهيجاء
عند الحديث عن رمضان، نؤكد أن هناك غاية عظيمة وراء صيام رمضان أو بالأحرى غايات عظيمة. فإذا تحققت هذه الغايات في وجدان الصائم، يصبح ربانيًا. ومن يصبح ربانيًا، يصاحبه إقراره بعبودية الله أينما حل وعلى كل حال. فتجده عابدًا لله معتزًا بانتمائه إلى دائرة العبودية لله. فلا يفوت فرصة الانتماء إلى عبودية الله بعد انتهاء رمضان، وذلك بعدم العودة إلى العادات والتقاليد والأعراف التي لا ترتبط بصيام رمضان. فبعض الناس، إذا حل هلال رمضان، يقبلون على بيوت الله تائبين، وتظهر عليهم علامات الخشوع والخضوع لجلال الله. ولكن عندما ينتهي رمضان، يقطعون حبال المودة بينهم وبين خالقهم، فلا تراهم يرودون المساجد، ولا يتعاهدون المصاحف، حتى تنعقد ألسنتهم عن ذكر الله وتسبيحه، وكأن الله يعبد فقط في رمضان.
وقديمًا، قال الخليفة أبو بكر عند وفاة الرسول الكريم: “من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”. ونحن نقول الآن: “من كان يعبد رب رمضان في رمضان، فإن رمضان قد انقضى، ولا ندري إذا ما سنلقى رمضان العام المقبل، ومن كان يعبد رب رمضان، فإن رب رمضان حي لا يموت”. فنحن بحاجة إلى الوقوف ببابه ليلا ونهارا سرا وعلانية، لأنه ذو الجلال والإكرام، والقادر على كل شيء، والمجيب للمضطر إذا دعاه. ويكشف السوء. ولذلك قال أحد العلماء: “بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان”. كن ربانيًا ولا تكن رمضانيًا.
قد يسأل البعض: “كيف أكون ربانيًا؟”، والجواب يكون إذا استحضرنا عظمة الله في أنفسنا في كل مقام وفي كل زمان بعد أن تحققت غاية من غايات رمضان في وجداننا، وهي التقوى. قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”. والتقوى لها معاني كثيرة، منها “ألا يراك الله حيث نهاك”، وقال الجنيد: “ليس المتقي من يحب للناس ما يحبه لنفسه، ولكن المتقي من يحب للناس أكثر مما يحبه لنفسه”. ومعنى قوله هذا هو أن يؤثر الآخرين على نفسه. قال تعالى عن الأنصار: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”. وقال الإمام علي: “التقوى: هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل”. فمن راقب نفسه في رمضان وفي غيره ولم يقحمها المعاصي والفجور والتعدي على الخلق، بل عمل على إسعاد الخلق، وأيقن أنه كما انقضى رمضان، فالأيام تنطوي سريعا. لذا يجب أن يعد نفسه من أهل الآخرة، ولا يصطلح مع الله في رمضان ثم يبارزه بالمعاصي بعد رمضان، وهو يرى ما ينتظره في زمانه.
وما المرء إلا راكبا ظهر عمره، على سفر يفنيه باليوم والشهر، يبيت ويضحي كل يوم وليلة، بعيدا عن الدنيا قريبا إلى القبر. فلا ينبغي لأحدنا أن يكون موسميا يعرف ربه شهرا في العام ثم بعد ذلك ينقطع عن الاستجابة لخالقه، بل عليه البحث عن طريق القبول للأعمال التي عملها في رمضان، وعلامة القبول المداومة على الطاعة. قال تعالى: “والذين اهتدوا زدناهم هدى وآتاهم تقواهم”. فمن علامة القبول اتباع الحسنة أختها، ومن علامة عدم القبول الخوض في المعاصي. لأن الحسنة تتبعها الحسنة، والسيئة تتبعها السيئة. روى الترمذي عن معاذ بن جبل عن رسول الله أنه قال: “اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”. وهذا الحديث يوضح لنا ما المطلوب من العباد وأهل الصيام والقيام. كأنه يقول لنا: إذا كانت غاية من غايات الصيام هي الوصول إلى التقوى، فإن الذي يخاف ربه ويتقيه يبادر دائما إلى التوبة وإصلاح ما يفسد من أعماله. ولا يمكن الحصول على أجر الصيام والقيام إلا بحسن معاشرة الناس، ولا يكون ذلك إلا بالخلق الحسن. ويجب علينا في هذا المقام أن نذكر بصيام السنة الثابتة عن رسول الله، ومنها صيام ستة أيام من شوال. فقد حث الرسول على صيام ستة أيام من شوال ليكون العباد على موعد دائم مع الله. فما أن يفرغ من عبادة إلا ويدخل في غيرها، ليبقى على العهد الذي قطعه على نفسه. قال رسول الله: “من صام رمضان، ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر”، أي كمن صام السنة كلها. والمؤمن لا ينقض عهده مع الله كما يفعل غيره. قال تعالى: “والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، أولئك هم الخاسرون”. ولذا شبه الله تعالى من يتحول من الطاعة إلى غيرها كمثل امرأة غزلت ثوبا متينا قويا، وبعد ذلك قطعته أربأ. قال تعالى: “ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا”. فحافظ على ثوب الطاعة والتقوى، ولا ترتد على أدبارك، فتكن من الخاسرين.