تشهد العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان واسرائيل في السنوات الأخيرة مدا وجزرا. وهذا التوتر أو عدم الاستقرار في العلاقات يعود إلى الخلافات حول أمور تعود للعقيدة الدينية أو النقاش السياسي القائم على الخلفية الدينية. وذلك يعود لكون اسرائيل تعرف نفسها انها "دولة اليهود" ولأن اليهودية دين وقومية، فيتم المزج بين الأمرين، وتزول الفوارق وتختلط السياسة بالدين، ولأن الفاتيكان دولة دينية بالأساس، فتزداد الأمور سوءا.
دلت الاتصالات بين الفاتيكان واسرائيل عن تحسن في العلاقات توج باعلان قداسة البابا عن نيته بزيارة الأراضي المقدسة، وفجأة وقبل أيام ليست بعيدة عاد التوتر ليميز العلاقات على أثر قرار البابا بازالة الحرمان عن أحد المطارنة الرافض للنازية. وعلى أثر ذلك حصلت احتجاجات يهودية عديدة، حتى أن مجلس اليهود في ألمانيا أعلن قطع علاقته بالفاتيكان وتعليق الحوار معه، ثم انضمت مستشارة ألمانيا ميركر إلى انتقاد البابا علنا.
وأمام تلك التحركات اضطر البابا إلى التراجع عن قراره واستنكار أي انكار للمحرقة النازية، أمام مجموعة من رجال الدين اليهود الأمريكيين، وعاد في هذا اللقاء ليعلن عن استمرار اجراءات زيارته لاسرائيل.
ولم يتأخر الرد الاسرائيلي الذي جاء من خلال البرنامج التلفزيوني الترفيهي في القناة العاشرة "ليئور شليان يستضيف" مطلع الأسبوع الماضي، وفيه سخر من أقدس مقدسات الديانة المسيحية، بأسلوب حقير وممجوج، ردا –حسب ادعائه- على انكار المحرقة، وكأن كل المسيحيين أنكروا ذلك أو يتحملون مسؤولية تصريح أحد الأساقفة!
ويظهر أن البابا بندكتوس السادس عشر يعاني من مشاكل داخلية في الفاتيكان، وأنه لا يسيطر على الأمور كما كانت أيام سلفه البابا يوحنا بولس الثاني الثاني الذي تميز بخبرته وحكمته وأناته، ويدل على ذلك أصوات النقد المباشر لأسلوب عمل البابا الجديد، من داخل الفاتيكان نفسه، فيقول الكاردينال والتر كاسبر، المسؤول عن ملف علاقة الفاتيكان باليهود، حيث يقول في هذا الصدد " من الواضح أن أخطاء ارتكبت في الأمور الإدارية في الفاتيكان، ويجب قول ذلك بوضوح." وانضم إليه رئيس إذاعة الفاتيكان الذي قال بدوره "هناك سقطات في الإدارة والاتصال في الفاتيكان. ومن الممنوع أن تعود مثل تلك الأخطاء والسقطات ثانية."
من هنا نرى أن الفاتيكان وعلى رأسه قداسة البابا يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية التي تظهر في القرارات المترددة، والاجراءات المتلعثمة، مثلما جرى في قضية التأجيل عن قداسة البابا بيوس الثاني عشر قديسا، تحت ضغط الأوساط الاسرائيلية والصهيونية العالمية، والتي رافقتها حملة مهينة للفاتيكان وقد برز في التهجم على الفاتيكان بأسلوب غير لائق وغير دبلوماسي الوزير الاسرائيلي من حزب "العمل" والذي يحسب من الحمائم، المسؤول عن العلاقات الاسرائيلية مع الفاتيكان، هرتسوغ دون أن نسمع ردا حازما من الفاتيكان على تلك التهجمات، بل رأينا الفاتيكان يتراجع عن قراراته بشكل مؤسف وفيه إهانة ذاتية، فلماذا يوصل الفاتيكان وضعه إلى حد التهاون بهذا الشكل المسيء والمقزز؟
واذا كان معاونو البابا يرفعون أصواتهم بالنقد لأسلوب عمل قداسته ولكيفية اتخاذ القرارات في الفاتيكان، يحق لنا نحن أبناء الكنيسة الكاثوليكية، وخاصة أبناء الشعب الفلسطيني وممن يعيشون في هذه المنطقة الصاخبة من العالم، أن نتساءل عن كيفية اتخاذ القرارات، وهل فكر قداسته جيدا وبامعان، وهل استشار أصحاب الشأن من المسؤولين في الكنيسة المحلية قبل أن يعلن عن موعد زيارته لإسرائيل؟ ومن حقنا أن نتتساءل هل حقق الفاتيكان انجازا للمسيحيين العرب والفلسطينيين عشية زيارة قداسته لاسرائيل، وهل قدمت له الحكومة الاسرائيلية "إكرامية" ما كما تفعل حتى مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس؟ كثيرون من المسيحيين في هذه البلاد ومن أبناء الكنيسة الكاثوليكية بالذات، لا يفهمون ما سر تلهف البابا على زيارة اسرائيل وعلام العجلة في ذلك؟ لماذا لا يسير على خطى سلفه البابا يوحنا يولس الثاني في هذا الشأن ويتمهل قبل أن يتخذ مثل هذه الخطوة.
واليوم سنحت فرصة نادرة أمام قداسته بالتراجع بكرامة عن قراره، وإذا كان ما ارتكبته اسرائيل من مجازر في غزة لم تكف لتأجيل الزيارة، وكان البابا ينوي زيارة غزة أيضا كما فهمنا، فقد جاء البرنامج التلفزيوني المسيء للديانة المسيحية ولرموزها الكبيرة، ضمن الحملة على الفاتيكان والديانة المسيحية، ليقدم التبرير المنطقي لإعلان البابا عن تأجيل زيارته احتجاجا. وقد صدق المشاركون في المؤتمر الصحفي في الناصرة من رجال دين وعلمانيين باعلانهم أننا بدأنا نعاني من موجة "اللامسيحية" في اسرائيل، وقد دعوا غبطته إلى تأجيل زيارته كما يطالب المئات بل الآلاف من المسيحيين هنا بذلك ويرفعون صوتهم أمام قداسته بالامتناع عن الزيارة احتجاجا على الإهانة المقصودة والمبرمجة للمسيحية، فهل نترك هذه الحملة دون رد فعلي يترك أثره القوي والفعال؟ لكن وللأسف مرة أخرى أصدر الفاتيكان بيانا احتجاجيا يثني فيه على بيان الأساقفة المحليين ويتبناه حرفيا، ذلك البيان الذي اكتفى باعلان الاحتجاج ولم يرق إلى مستوى المطالبة بتأجيل الزيارة المرتقبة، وكأن من أصدر البيان طرف بعيد يتضامن مع المسيحيين على تلك الإساءة وحسب. وأضاف بيان الفاتيكان أنه بعد اتصال القاصد الرسولي بالسلطات الاسرائيلية قامت بالتدخل لمنع مثل هذه البرامجح. بينما الصحيح أن تحرك عدد من أبناء الكنيسة المحليين الغيورين على ايمانهم وديانتهم، ومنهم المحامين وبعد تهديدهم للمسؤولين عن التلفزيون بالتوجه للقضاء، جرى التراجع عن مواصلة الإساءة حيث اعتذر مقدم البرنامج والمسؤولين في المحطة للمحامين في اليوم التالي عن هذه الإساءة خشية من تعرضهم للقضاء.
وفي الختام نقول، ان أقل ما يمكن أن يقدم عليه البابا في مثل هذه الحالة هو تأجيل زيارته المزمعة لاسرائيل، أما الاستمرار في ترتيب أمر الزيارة وكأن شيئا لم يكن، انما يعزز اعتقادنا بأن الفاتيكان يقدم التراجع تلو التراجع أمام اسرائيل دون الحصول على أي مكسب، وهو أمر يثير الكثير من التساؤلات والشكوك.