(تصوير: وائل عوض)
الفكر «المتفرنج» و«المُتعلمِن» أدخل على عاداتنا عيد مولد هذا أو ذاك من النّاس، كأنّ مجيئنا من بطن امرأة شيء هامّ. أجل، تقيم الكنيسة مولدًا ليوحنّا المعمدان (يحيا بن زكريّا في الإسلام)، ومولدًا لمريم، إذ يذهبان بنا إلى موت كلّ منهما. والموت عندنا تهيئةً للمجد العظيم.
من باب أوليّ لا يأتي عيد ميلاد المخلّص لتذكر الحدث، ولا سيّما أنّ الكتاب لا يحدّد تاريخًا لسنة ميلاده أو يومًا لميلاده. ليس في الإنجيل معطيات كافية لمعرفة ذلك! الـ 25 من كانون الأوّل يوم اصطلاحيّ حدّدته المسيحيّة بسبب مكافحتها في هذا اليوم لعيد الشمس الّتي لا تُقهر؛ فقالت هي إنّ يسوع هو في الحقيقة الشّمس أو نور القلوب وهدايتها. فنحن ليس عندنا مولد أو يوبيل، لذلك كانت الذكرى عيدًا فكريًا، عيد الضياء الّذي يسطع على الجنس البشريّ؛ هو موسم معموديّتنا بالنور.
ولهذا كنّا نقيم حتّى مطلع القرن الخامس العيد مع الغطاس في السادس من كانون الثّاني، ذلك لأنّ اصطباغ المسيح في الأردن والميلاد معًا كانا يسمّيان عيد الظّهور الإلهيّ؛ التذكاران احتفال بالمجد الإلهيّ. من هذه الزاوية هما صدى للفصح الّذي بقي، فترةً ما، العيد الوحيد، وظلّ مهما تعدّدت التذكارات، عيد الأعياد وموسم المواسم.
أعياد الشهداء هي نفسها أعياد فصحيّة، لأنّها تجمع بين رؤية موتهم وتوقّع قيامتهم. وإذا كان القدّيسون الآخرون لم يستشهدوا، إلّا أنّهم حملوا شهادةً بيضاء. انتصار المسيح على الموت يبقى الحقيقة الوحيدة في المسيحيّة، وكلّ ما تبقّى إشعاع لها أو صدى.
إنّ ارتباط الميلاد بموت السيّد وغلبته ظاهر في الأيقونة البيزنطيّة. الطفل مُدرج بأقمطة بيضاء ومطروح في مغارة سوداء. ما أقرب هذا من كفن المسيح المطروح في قبر. والمؤمنون في الكنائس البيزنطيّة يصوّرون القائم من بين الأموات لا صاعدًا من قبر – ولو شذّ المنحرفون عن الفنّ الأصيل في الأزمنة الحديثة – ولكنّهم يصوّرونه نازلًا إلى الجحيم. هو التضاد بين لباسه الأبيض وظلام الموت، ومن هذا ينتشل الجنس البشريّ.
أمّا تواضع يسوع في ميلاده في مذود للبهائم فعلى هذا المنحى. يولد وليس عليه مسحة من المجد، إذ تبينه الأيقونة برفقة حمار وبقرة.
الأيقونة تدنيه من أحطّ المخلوقات لتقول إنّه بات كاللاشيء، مثل اللاوجود. فإنّ الخلق الجديد يجب أن يبدأ من العدم، كما كان الخلق الأوّل من العدَم. يجب أن يجيء اللّه الكامن في المسيح إليك بلا قهر، وكأنّه مدعو إلى حريّتك منك. هذا اللاكيان في بيت لحم تجيء أنت منه بحبّك كيانًا.
عندنا موضع رئيس في العهد الجديد عن أنّ الكلمة الإلهيّ في التجسّد أخلى نفسه – بمعنى أنّه حجب مجده الأزليّ – }آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس. وإذ وجُد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتّى الموت} (فيليبي 7:2 و8). الكلمة المحوريّة وضع نفسه.
بعد هذا يأتي بالتقابل (لذلك رفعه اللّه). وبعد هذا (يعترف كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو ربّ لمجد اللّه الآب). المسيرة هي هذه: كمون المجد في بشريّة يسوع واحتجابه بالميلاد، ولمّا كان في البشريّة ثمّ استبيان الإنسان، مجد اللّه في ربوبيّة المسيح لمّا عُلّق على الخشبة وهذا بلا نور يسطع للعيون، ولكن بحصول الغلبَة وفناء الخطيئة، مجد اللّه في شخص المسيح يصير فعلًا في الإنسانيّة الناجية بتعليمه.
فإذا اعتبرت أنت نفسك لا شيء، تدخل في سرّ الميلاد؛ تكون رفيق يسوع في المذود ويحلّ عليك المجد إذ يتبنّاك الآب. تكون كأنّك لم تأتِ من بطن امرأة. تكون قد أتيت من أحشاء اللّه، فإنّه هو الأمّ الكونيّة الكبرى.
وإذا ولدت منه بالنّعمة تكون قد أشعت اللّه. يستخدمك ربّك ليولد له بَنون كثيرون. يسكن فيهم – ولو لم يتمَوضع أو يتحيّز – ولكنّه مقيم حقيقةً فيهم، إذ يتألّمون ويبكون ويحرّكون أحشاءَه. بيت لحم كانت إلّا لتصبح الكون. ولكن المسيح يستعير قلوب القدّيسين ليسكن فيها، في نعمة توزّعه، ثمّ يستعيرها للخدمة ليقيم في القلوب على مقدار تأهّبها لاسقباله.
بقي يسوع معرّضًا لكلّ الأخطار.. يطارده هيرودس لمّا سمع من المجوس أنّهم جاؤوا ليبحثوا عن المولود (ملك اليهود)، فقتل هيرودس جميع الصبيان الّذين في بيت لحم، وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون ليقتل يسوع بينهم.
هكذا يظلّ يسوع في طراوته وطراوة محبّيه الّذين سينال منهم السيف في كلّ تاريخهم، وحيثما وُجدوا. أحبّة المسيح المخلّص لا يأخذون بالسيف، وعرفوا الشّهادة ركنًا أساسيًا في عقيدتهم، وعرفوا أنّ مظلوميّتهم نصر لهم وأنّ مَن قتل النّاس فإنّما يقتل ضميره. والشّهداء على طريقة المسيح، إنّما هم الغالبون في قلب اللّه وقلب التاريخ؛ إذ لا نصر لك إلّا إذا غفرت لأعدائك وبقي قلبك حرًّا من الحقد، فالحاقدون هم المقهورون والشهيد في حساب اللّه هو الباقي إلى الأبد.
ويظلّ المسيح في وداعته قويًا شديدًا على المنافقين، ويقول إلى الأبد {ويلٌ لكم أيّها الكتبة والفريسيّون المراؤون، لأنّكم تغلقون ملكوت السّموات قدّام الناس… لأنّكم تأكلون بيت الأرامل} ، ثمّ يقول: {أيّها القادة العميان الّذين يعفون عن البعوضة ويبلعون الجمل.. أنّكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءَة عظام أموات}. على رقته لم يوبّخ أحد مثلما وبّخ. ولكنّه في هذه الرقّة نفسها غفر لجباة الضرائب والزواني ومن بعد توبتهم آكلهم.
هذا الطريء كالوردة جبه مجمع الأحبار والوالي الرومانيّ وعرف أنّ هذا الجبه يقوده إلى الموت، ولكنّه جاء ليشهد للحقّ ولينبت من تواضعه الكامل كبر الإنسان الجديد. القوّة الّتي تأتي من الغفران وانسحاق القلب بلا خوف هي الّتي تولد الشجاعة، وغير هذا عجرفة وتسلّط على الضعاف.
ولقد قدر أن يقف هذه المواقف باستمرار لأنّه داس المال وداس السلطة الّتي تأتي من المال، وتربّع على عرش آخر. ما كان يسوع قويًا إلى هذا الحدّ إلّا لكونه كان فقيرًا بلا حدّ، وأقام الفقراء ملوكًا في مملكة أبيه. لا شيء أغراه في هذه الدنيا، ولا شيء أضعفه، ولذا أنت ضيف عليه إن كنت فقيرًا أو منسيًا أو مهمّشًا أو هضيم الجناح. وإذا كنت مريضًا يائسًا فهو إلى جانبك؛ وإذا لم يشفِ جسدك فإنّما يلطف بروحك وتعرف، إذ ذاك، أنّك معه تصير إنسانًا آخر، إنسانًا مؤهّلاً لحياة في قلبك لا تنقطع.
وإذا كثر مالك أو عوفيت أو حكمت الأرض، ولم يكن المسيح رفيقك على دروب ازدهارك، فسيأتي وقت تشعر فيه أنّ كلّ ما في يديك أو جسمك أو عقلك ليس بشيء، إن لم ترقّ كما رقّ هو، وإن لم تتواضع كما تواضع هو.
ويكون هذا ميلادك الثّاني من بعد أن ولدتك أمّك وتتحقّق، إذ ذاك، أنّ المسيح أهمّ من أبيك وأمّك وكلّ عشيرتك، لأنّ أحدًا لا يقدر أن يكون لك كلّ شيء في وحدتك، وهو قادر أن يكون كلّ شيء في داخلك.. هذا هو ميلاده الدّائم، وهذا ميلادك.