لم تطل الغياب هذه المرة، فآخر إطلالة لها كانت في الشتاء الماضي عندما أهدتنا البوماً طال إنتظاره، إحتفينا به معها، وكان حدثاً شغل لبنان والعالم العربي، فتدفق القاصي والداني من كل أصقاع الأرض ليقف في حضرتها، يتعمد بنورها، ويخشع وهو يستمع لصوتها الملائكي الذي أذكر أننا كتبنا عنه يومها بأنه "كالنبيذ كلما مر عليه الزمن كلما تعتق وزادت جودته".
كان الجو عاصفاً ماطراً، والدنيا تعيش عيدين، عيد الميلاد الذي تزينت لأجله المدينة بأبهى حلة، وعيد الفن مجسداً بسفيرة لبنان الى النجوم، جارة القمر.
ولم يختلف الحال هذا العام فالتوقيت هو ذاته تقريباً، والعاصفة عادت من جديد لتغسل وجه المدينة التي تزينت بأبهى حلة مرة أخرى لتستقبل الوافدين من كل مكان.
تنظر الى الوجوه فتجد حالة من الفرح تشبه فرحة طفل صباح الميلاد، وهو يفتح هداياه المرصوصة تحت الشجرة.
سألنا وجوه الفن والإعلام ما سرها؟ ما سر هذا الحب الخالد الذي لا يذوي وينتقل كالعدوى من جيل لجيل؟ كانت الإجابة شبه واحدة إنها "فيروز" هذا سرها…
المسرح هذه المرة كان مختلفاً وجديداً، والإجراءات الأمنية مشددة، وكما جرت العادة: لا كاميرات، ولا هواتف خليوية. ممنوع دخول أي وسيلة تسجيل بالصوت أو الصورة.
هذا المنع، وهذه العزلة، وهذا الغموض يسهمون في تكريسها ككائن أسطوري، نشك أحياناً أنه يعيش معنا على نفس الكوكب.
جلس الجميع في أماكنهم بعد تدفق دام ساعتين تقريباً، ليستوعب المسرح هذا الكم من الناس بعد إجراءات الدخول المشددة، التي ساهمت في الزحام وإنتظار الجمهور طويلاً على المدخل في البرد، بساحة مكشوفة، وكان من حظ الحضور أن المطر توقف حينها.
وبدأ الحفل بمعزوفة للفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو هاروت فازليان ، ثم تسلل صوتها الينا من الكواليس تهمس «مسيتكن بالخير يا جيران»، لينتفض عشاقها وقوفاً، وتصفيقاً، وتهليلاً، بعد التحية الحارة هدأ الجمهور ليستمع، تنتهي الأغنية الأولى وتبدأ موسيقى «تعا ولا تجي» فتشتعل الأمواج البشرية التي ملأت الصالة بأكثر من 3500- 4000 شخص.
لا تملك بعض حناجر الحضور سوى أن تصدح معها غناءً وهو أمر تفهمه البعض وقابله البعض الآخر بإنزعاج، فنحن هنا لنستمع الى فيروز لا لنغني معها، ولكن الحماسة غلبت البعض فإندفع بلا وعي للغناء معها ، وشوش على المحيطين به، ترتفع بعض الأصوات المعترضة ويهدأ هؤلاء.
تغني أغنية أخرى وتختفي، لتتركنا مع الكورال يغني بعض المختارات للأخوين رحباني أو لزياد رحباني، ثم تعود مجدداً، ويشتعل الجو من جديد.
خلال الحفل الذي بدأ في التاسعة والنصف وأستمر لمدة ساعتين تخللتها إستراحة قصيرة كانت الأغنيات الأبرز هي: "طلع القمر"، "تعا ولا تجي"، "على جسر اللوزية"، "طيري يا طيارة"، "دوارة عالدوارة"، "فايق ولا ناسي"، وأغنيات ألبومها الأخير "في أمل"، و "شاورت حالي" أو كما تعرف بـ "ياضيعانو" بالإضافة للأغنية النوستالجية الرائعة "صباح ومسا" فكان الحفل فعلاً "شيء ما بينتسى".
المفاجأة كانت عندما شدت "جارة القمر" بالديو الذي جمعها مع الفنان الراحل "نصري شمس الدين" في مسرحية "سهرة حب"، وحملت آلة "الدف" بيدها لتنقر عليه، فجن الجمهور ووقف يصفق، ويصرخ حبوراً، فنادرة هي لحظات التفاعل التي تعيشها فيروز مع الجمهور في المسرح، فهي عودتنا على أن تقف دوماً وبروفيلها لنا، تغني ونظرها مثبت على نقطة أمامها، تنحني للتصفيق بجلال ملكة، تواجه الجمهور مرة واحدة في النهاية، عندما تلقي التحية الأخيرة، لكنها هذه المرة، كانت مختلفة أدت الأغنية كما أدتها في المسرحية بنفس الحيوية والمرح، وأخذ أحد المنشدين في الكورال دور الراحل الرائع "نصري شمس الدين".
وعندما شدت بمقطع جاء فيه "ما سهرنا ببيروت منسهر بالشام"، إشتعلت الصالة ودوى التصفيق والصفير، جمهورها السوري الذي تجاوز الجرح والظروف العصيبة التي تمر بها سوريا حاليًّا، وأبى أن يغيب، حضر، أراد أن يبايعها من جديد، فأرسلت له رسالة مفادها أنتم منا وفينا وفي قلوبنا ما حيينا.
أدى الكورس أغاني للأخوين رحباني وزياد رحباني؛ منها: "بدنا الطرقات"، و"على مهلك"، و"عتم يا ليل"، و"مراكبنا ع المينا"، و"شواطينا".
إنتهى الحفل وكالعادة بقي الجمهور يصفق ويهلل قرابة الخمس دقائق، والفرقة باقية في مكانها، من لم يحضر لها حفلاً إعتقد بأنها غادرت وأنتهى الأمر، لكن من تعود على مرافقتها في كل إطلالة لها يدرك تماماً بأنها ستعود مرة أخرى لتؤدي التحية الأخيرة.
كان الحال لايوصف فهذه الآلاف المؤلفة تدق بأرجلها على الأرض بإيقاع واحد حتى خيل لنا بأن المدرجات ستنهار. وعادت وأشتعلت الحماسة مجدداً، غنت مقطعا صغيراً جداً للأخوين رحباني «جينا لحلاّل القصص تنحل قصتنا».
ثم ختمت كعادتها بأغنية "بكرا برجع بوقف معكن" وكأنها أرادت أن تؤكد أن هذا الموعد ليس الأخير. وعندما إنتهت كان التصفيق على أشده رفعت يدها لتحية الجمهور، وأحنت رأسها، ففاجأها شاب تسلل الى المسرح في غفلة من الجميع، ركع أمامها أمسك بيدها اليمنى قبلها، وشعرنا بأنها جفلت قليلاً، وجفلنا معها، لكنها لم تتزحزح بقيت تحيي الجمهور، وأنسحب الشاب بهدوء مع ظهور ريما الرحباني راكضة بإتجاهه، الحارس الأمين لهذا الكنز الفني الثمين، والجندي المحارب في الكواليس للحفاظ على التاريخ الفني الكبير.
ريما تدرك جيداً قيمة فيروز، وتعرف كيف تقدمها ومتى، رأى البعض أنها جرأة كبيرة منها أن تقيم أربع حفلات تستوعب 16 الف شخص خلال أسبوعين، بواقع 8 آلاف شخص في الأسبوع، في ظل هذه الظروف الملتهبة، ويرى البعض أنها ربما لن تنجح في تعبئة الحفلين الأخيرين.
لكن ما لا يدركه البعض أن الحاجة لفيروز تزداد في ظل هذه الظروف العصيبة، وما لا يعلمه البعض أيضاً أن طائرة حضرت من مصر مساء يوم الخميس أغلب ركابها جاؤوا لحضور الحفل يوم جمعة 9 ديسمبر .
ومن كان مثلنا يقف في المدخل يرصد الجمهور، ويجري معهم حورارات قبل الحفل شاهد خليطاً متنوعاً تدفق من الأردن، وسوريا، ودول الخليج كذلك، والبعض جاء من دول الإغتراب.
لذا نعتقد بأن ريما الرحباني ستكسب الرهان. فالمذهل هو هذا الحضور الكبير رغم غياب أي نوع من الدعاية المتعارف عليها، فالحفل تم الإعلان عنه عبر صفحة فيروز على الفايس بوك فقط، وتناقل الناس ووسائل الإعلام الخبر الذي سرى كالنار في الهشيم، لا بوسترات في الشارع، ولا إعلانات متلفزة، ولا إعلانات في الصحف أو المجلات، من يقدر في يومنا هذا أن يحشد مئات وليس آلاف دون دعاية سوى "فيروز"؟