طفحنا بقاموس هذا الزمن الساقط اللقيط، وامتلأنا وأصابتنا منه تُخمة، سقطت من أصابعنا التي استحوذ عليها، وهنُ النعاس بوصلة، وفقدنا، يا كلَّ ابتسامات الصباح، الطريق إلى ظلٍّ لك فرشته لنا داليةٌ – فأين سنأتي بركوَتنا ونحتسي القهوة، ونقرأ طالعنا يومًا فيومًا؟!
هي الحقيقة أيّتها الابتسامة، يا صديقتي القريبة البعيدة، كثيرون منّا تولت أبصارهم عن الموناليزا، واحترفوا التجهّم والعبوس مهنةً، وأرادوا لصدورهم أن تبقى على الحزن والكآبة مدمنةً، أنا أقرُّ أنّهم أشبعوك بذلك فقدًا ويتما، لكن لا تزيدي الإله غضبًا وتبعثي به الآن، ذلك الأعمى!!
نحن يا صديقتي في زمن المدينة المُغلقة، الّتي أحكموا انسدادها من كلّ الجهات!! لأن «اللّه» كما حذّر من قبل دوستويڤسكي، غادرها، ولم يعُد له من الوجود فيها حتى البقية! فلا عجب أن تطغى الرذيلة والرذالة وتصبح كلّ المعاصي والكبائر مسموحًا بها ومباحة! فـ«القادة» اختاروا «خندق هِمم العهر» لهم «معسكرًا وقاعدة» ومن هناك ينطلقون لاهثين وراء «عروش المحد والبطولة» و«الإنتصارات الكبيرة» ليصلوا إليها بأقفيةٍ قد فضّها «كبير» هذا العصر، مكافأة لهم على «فوزهم الباهر» في مباريات الخنوع والخيانة والإنبطاح وحرق البخور الهجين تحت أقدامه!!
وبذلك ينجحون بامتياز في خصي قضايا شعوبهم، تطلّعاتٍ وأمالا، واستأصلوا المسّرة من قلوبهم زادًا وزوّادة – قد تظنّين يا صديقتي أنّني بهذا الكلام، أريد أن أكرّس بقاء إنساننا العربي في هاوية الضياع والتيه والندب والشكوى جعجعةً وقعقعةً!! أو إنّني أريد، وهو توأمي المسحوق أن أعطيه «إبرة» وأطالبه أن يحفر بها «بئر خلاصه» ويفقأ عين «العاصفة» الّتي يرسلها «ميدوزا العصر» من هديره الدوامة!!
لا! أيّتها الصديقة! ما كان من قلمي وهو الساهر القلق إلى أن لبّى نداء أرضنا الطيّبة التي هبّت تصرخ إيلامًا لما وصل إليه أبناؤها من سحق وطحن تحت رحى الظلم والعدوان والحرمان والمهانة.
ولأنّ هذا القلم الصامد لن يقبل بعد لقدسيّة بيته ذلاًّ ومتهانًا ملأ الأزقّة والحارات قرعًا وتكبيرًا: اشتد الظّلم وغطّت طريقنا غيوم مدلهمّة؟!
كبر الحصار وأشبعونا به جوعًا حتّى النخاع، جوعًا لا يعرف التُخمة؟!! لا خوف يا صديقتي ويا ابتسامتي الدائمة! ستظلّ أصابعي بتِلات تتوالد من حفيدات «العلّيقة» أصابع مشرئبّة!! تحملك قنديلاً بديلاً، زيته عزيمة ترفض الهزيمة، وشجاعة يجددها صبر ساعة، لتظلّ أفنانها تتفرّع عنادًا وتمرّدًا ونصرًا أبيًّا، نصرًا يعتصم دومًا بحبل رسالة الحياة؛ صلاةً، وأملًا تحقّق صباحًا، ابتسامة يملأ فرحها كلّ القلوب، دويًّا!
(تصوير: وائل عوض)