مارغاروش يعود من جديد – د.ماجد خمرة-حيفا

مراسل حيفا نت | 13/02/2009

 

نعم أنا هو ذا الجنيّ الحيفاوي النكبوي الزمكانيّ ،الذي ألقيتموه في يمّ دار السيقلي على تخوم البلد التحتا ظانين بذلك أنني قد انتهيت وانتهت قصتي معكم . لا وألف لا؟. أم حسبتم أن أم " ضريطة" قد هزمتني شرّ هزيمة عندما لقيتها في تلك العمارة المهجورة التي أصبحت ملكا للوصيّ على أملاك الغائبين ، أم ظننتم بأنني تخليت عن مرتع صباي في حارة الكنائس ، التي خلت من ناسها وبنيانها لتصبح كتلة هائلة من البطون الرمادي والرصاصيّ تتهافت إليها العامة والخاصة لقضاء شؤونهم اليومية. من ظن انني متّ فهو على خطأ . ها أنا أقف أمامكم منتصب القامة والقدّ على الرغم من قزميتي الجنيّة أراقبكم يا أهل حيفا الكرام بعينيّ القرمزيتين واشتم روائحكم على أنواعها المستحضرة من بلاد الفرنجة ، فما زلت أرمقكم بنظراتي الثقيلة كي استبين صالحكم من طالحكم حرصا مني على عدم خلط الأوراق . فبعد شتاتي في المنافي وعلى غير عادتي قررت هذه المرة وفي ستينية نكبتكم – نكبتي أن أتوجه إليكم وأصارحكم بأفكاري وانقل إليكم الحقائق التي جهلتموها.  

أعيدكم بالذاكرة إلى يوم الأربعاء 21-4-1948 إلى حارة الكنائس ، إلى أم مسعود بنت القلعاوي وأولادها الخمسة الذين حملتهم وتنقلت بهم بأسنانها كقطة دار الكنفاني من محلة البرج من مكان إلى آخر بحثا عن الأمان والطمأنينة بعد سماعها عن الأهوال التي حصلت في أرجاء فلسطين . فمن وادي الصليب إلى شارع ستانتون ومن ثمّ إلى شارع الخطيب ، القريب من بوابة الميناء…الميناء..نعم الميناء أو قل " بوّابة المينا" (بكسر الباء الثانية للبوابة وتسكين التاء ) بلهجتنا . تقترب أم مسعود من منطقة الميناء تتواعد مع زمنية بداية المشوار الطويل في الأفق الرصاصيّ البعيد. أم مسعود كانت تفكر كيف ستذود عن أولادها وتحمي عرض بناتها لهول ما سمعت من أخبار.

يأتي اليوم الآخر ، يوم الخميس ، خميس الأموات أم شمّ النسيم أم خمسة كعدد أولادها بعين الشيطان. تستفيق أم مسعود على أنغام حجاز صوت المؤذن من آل الخطيب ليكون آخر أذان لها تسمعه على هذه النغمة في تلك الرقعة الزمكانية . من صلاة الفجر وحتى الظهر بدأت أم مسعود مشوارها الدائري التقت خلاله أقاربها وجاراتها وهنّ على موعد أول مع هرولتهن ليكون موعدهن الآخر، الهرولة في مناسك الحج.

أعيدكم بالذاكرة إلى ذاك اليوم، إلى طلاب وطالبات المدارس الذين رافقوا أمهاتهم ممسكين بطرف فساتينهن خشية من الضياع ، ضياع الحق وضياع الوطن. كان عليهم الوصول إلى المدرسة لنهل العلم ، لكن جاءت يد غير يد القدر لتحرمهم من متعة التتلمذ والاستفادة. ولن أنسى كيف أنقذت بقدرتي الجنية ذلك الطالب الذي كاد يدهس تحت أرجل حصان دار عبد الفتاح الجامح الذي حدي لتوه في خان "الجيسي".

أعيدكم بالذاكرة إلى آلاف الكتب والقرطاسية التي بيعت بالكيلوغرامات بعد هجيجكم للتخلص منها ومحو ذاكرتكم وثقافتكم وحضارتكم. فالمطابع تحولت الى ريشة في مهب رياح نيسان تتناثر منها الأوراق وعبق الحبر من جبروت وبطش هولاكو من دجلة والفرات.

أعيدكم بالذاكرة عندما وقفت عند بوابة الميناء أراقبكم فردا فردا وزرافات زرافات " وطفّات طفّات "حسب لهجتنا الحيفاوية. رأيت وجوهكم وكأنها تؤكد المثل الذي قيل في أهالي حيفا " مَيْ مالحة ووجوه كالحة" . رأيت البؤس في عيونكم وأنتم تتخطون البوابة المفتوحة على مصراعيها لتمكنكم من الدخول الآمن والسلس . بوابة فتحت لكم أبواب العالم الواسع من التشرد واللجوء والنكبة التي بدأت……تمرون عبر هذا الحاجز لتأتيكم فيما بعد حواجز عديدة استطعتم تخطيها . حواجز وموانع ثقافية وحضارية حتّمت عليكم اللحمة والاتحاد تارة والانشقاقات والانتماءات المختلفة تارة أخرى. تتعدون البوابة الحديدية والأسلاك الشائكة بمراقبة المستعمر البريطاني " أبو برنيطة " فيقوم بعدّكم وإحصائكم خدمة منه للحقيقة والتاريخ . تفرست وجوهكم وسحناتكم ورؤوسكم المطأطئة وعيونكم المتجمرة من البكاء والدموع الغزيرة . سمعت حشرجة نفوسكم وعويلكم الرجولي والنسائي والطفولي .  سمعت كلماتكم وجملكم المبعثرة قائلة " ولو شو السيري خلينا بقر ، هيك بطلعونا " وثانية " خليت طبخة الصيادية الحمرة على البريموس …إسّا بتحترق ! " وآخر " نسيت أسكر باب البيت وهِيّا المفتاح بعدو معاي .." وأخرى تقول " يلا كلها أكَمّن يوم ومنرجع….بيقولوا بدهن يوخدونا على عكا…." نعم سمعت هذه الجمل التي وان دلت فهي تدل على مدى البلبلة والهول الذي حلّ في ذلك الزمان وذلك المكان.

أنا الجان مارغاروش ابن أشمداي وشمهاروش لم أصمد أمام هذه المشاهد فتحولت لإنسان يفكر ويشعر ويتأثر حتى انهمرت دموعي لما رأيته من مآس عند تلك البوابة الملعونة حتى أصبحت البوابة مشهدا ملازما لنكبتكم وجزءا عضويا من روايتكم، كنتم أغفلتم ذكرها. فعند صياغة روايتكم أطنبتم في الحديث عن الهجيج والرحيل والحنين والحق الضائع والظلم اللاحق بكم ولم تولوا بوابة الميناء الأهمية الملائمة. حتما ستضاف البوابة لكل حكاياتكم الفردية لإسكتمال النراطيف .

أعيدكم بالذاكرة إلى نعيم العسل وزينب القرعة حين اختلفا أثناء الرحيل على أسعار بعض السلع وتناقشا بأعلى أصواتهما حتى سمعتهما ختيارة دار محمدية لتقول لهما " الناس بالناس والقطة بالنفاس " ..وأذكركم أيضا بحديث دار بين شقيقين أراد أحدهما عقد راية الصلح بين عائلتيهما عقب خلافات نشبت بسبب الزوجات، إذ قال الأخ لأخيه " وبعدين معك…الوضع بتحملش كل هدا الجفا " فاجابه " إي ما مرتك بتحكيش مع مرتي " وبهذا حسم النزاع العائلي ليعاد من جديد في عالم اللجوء. هكذا.

والآن لأصارحكم يا أهالي حيفا الكرام لأنتقل بكم من تلك البوابة اللعينة التي لعنتها بكلمات شيطانية يعجز عن فكّ رموزها حتى نايف الحاج ابن حيفا، لانتقل إلى حياتكم اليومية الآن والتي أراقبها بعينيّ القادحتين والمتقدتين شزرا وشرارا ، حيث أنظر إليكم عاقدا حاجبي الأيمن دون الأيسر ومادا لساني " المروّس " دافعا أنيابي الحادة إلى الأمام. الحق الحق أقول لكم اني أرافق حفاظكم على كيانكم الحضاري والثقافي ومجرد وجودكم . هذا ما يثلج صدري وقلبي الجنيّ والإنسيّ . فبعد بوابة الميناء واللجوء لمن الواضح أن" تهتم " الدولة العبرية بشؤونكم وتدير أموركم وفق سياسات مدروسة قد تجهلونها وتعتقدون أنكم تسيّرون أموركم ، ومن الجليّ أيضا أنكم ما زلتم منكوبين على الرغم أن قسما كبيرا منكم لا يعتقد ذلك أو لا يريد أن يقر بالأمر الواقع. صحيح أنكم تواكبون العصر……تتعلمون في الجامعات وتديرون شؤونكم الاقتصادية والسياسية وتشعرون بارتياح اجتماعي في حيفا " أم الغريب " وتسكنون الأحياء العربية واليهودية دون عوائق تذكر وتتكلمون اللغة العبرية بطلاقة لدرجة تستبدلون فيها الحاء السامية بالخاء الاشكنازية والعين بالألف والراء بالغين الفرنسية . ماذا دهاكم ؟ فليكن . أراكم مصرّين على البقاء….البقاء الكريم المبني على حقكم وعلى ابسط حقوق الإنسان فشرعتم بكتابة النكبة لترووا للأجيال ما يجب أن ترووه . هذا واجبكم أمام السلف وأمام الخلف. ومع ذلك فأنا أحذركم من الابتذال في كتابة النكبة لتصبح فيما بعد موضوعا قابلا للأخذ والعطاء ، للسحب والتطريق ، ولربما سلعة للتداول. حذارِ حذار .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *