يمرُّ طيفُكَ أمامي مع كلّ نسمةٍ، ما بين الثّامن من آذار (يوم سموتَ إلى عالي السَّنا، قبل أَقلِّ من خريفين متعاقبين) ويومَ الثّامن من تشرين الأوّل (يومَ ولادتِك على هذه الأرض الطّيِّبة والمقدَّسة، قبلَ أربعٍ وثمانينَ حولًا) وكأنَّك تناديني، ويلتقي ظلِّي بظلِّك ما بين الثّامن من تشرين الأوَّل والثّامن من آذار، وكأنَّك تُهامسُني، وهكذا وعلى مدار أيّام السَّنة تحضرني أيُّها المناضل، أيُّها العمّ العزيز (أبو عايدة) داود تركي، الموجود في فؤادي، وتلازمُني لِنبقى جسدًا وخيالًا أو خيالًا وجسدًا متلاصقين في زاويةٍ قائمةٍ منتصبةٍ وشامخةٍ، شموخَ شجرِ الزَّيتون في جبال الجليل، وعاليةٍ وباسقةٍ بُسُوقَ شجر الصِّفصاف على الضِّفاف النَّهريّة، لا تنحني عن قائمتها التِّسعين درجة، «تُحَاكِي السَّمَاءَ» مهما أتاها من العواتي العاتية، وهكذا لا تكون حادَّةً ولا مُنفرِجةً.
.أفكّر بك وأُحِسُّكَ وأشتاقُ إليك ولحديثِكَ ولشِعرِكَ ولحضورِكَ ولمجلسِكَ ولرأيِكَ الصّائب في الأمور المصيريَّة.تنظرُ من شرفتِكَ وتُناظِرُ من سمائِك على ما يجري في وطنِنا، وتجري جريًا حثيثًا في جنَّاتِ الخُلدِ التي { تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ}، خالدًا فيها، تريد أن تُصلِحَ الأمرَ، وتأتي بالبيِّنات علّها تبعث الهدوء والطَّمأنينة وتعيد السَّكينة لهذا البلد الأمين.
أعرف أنّك الآن تُطمئِنُنا كما كنتَ دائمًا، أيّامَ زياراتِنا لكَ في سجن الرّملة، وأذكرُ مقولتك لنا، الدّائمة، أنَّ رياحَ تحريرِكَ قادمةٌ وأنَّ طوقَ العزِّ والإباء سيُفَكُّ وسَيُحَلُّ وِثاقُ أَسرِكَ؛ وهذا ما كان في العام ألفٍ وتسعمائةٍ وخمسةٍ وثمانين بعد أن أطلق الملاك جبرائيل نورسَه، بعد أن قضيتَ إثنى عشر عامًا ونصف في ظلام السُّجون، لأنَّك وُلِدْتَ للحرّيّة، وأنا أيضًا أُطمئنُكَ في المقابل، تمَامًا كأنَّك معنا، أنّ الرَّحمن ما زال باسطًا أجنحة ملائكته فوق ربوع شامنا الحبيب والأمين، وفوق بساتين النَّارنجِ البرتقاليّ وروابي الياسمين الأبيض الدِّمشقيّ الفوّاحة، علَّ عطرَ أزهارِها وورودِها يصلُك، مع تحقيقِ أملِكَ ورغبتِكَ الأكيدة، لأنَّ فيحاءَ وطنِنا ستجتازُ محنتها الّتي نسجتها لها قوى الظّلام والفتن، وستدوس على رأس الشَّيطان وتقطعه بسيفها البتّار، كما فعل سيِّدُنا الخضر مار الياس..
فالشّام الّتي أحببتها عصيَّةً، عصيَّةٌ على الخنوع والخضوع والرُّكوع، فهي كما قلتَ وكما عهدْتَها وكما أردتها:بَـرَدَى وَفَيْحَاءُ العُرُوبَةِ جَنَّةٌ يَسْرِي بِنَفْسِي ضَوْعُهَا المُتَفَوِّقُهِبَةُ السَّمَاءِ طَبِيعَةٌ فتّانَةٌ لَــنْ يَسْتَوِيها مَارِقٌ مُسْتَشْرِقُفأنتَ، يا عمّي ويا شقيقَ والدي، أدرى بشعابِ أولئك الذين يريدون الدَّمارَ لهذا الوطن العزيز والشَّريف، من آل سعود، طُغاة أرضِ الحجاز المقدّس، وذلك العاق الّذي قتل والده حقدًا وطمعًا وتآمرًا مع الغرب ليتسلّم الحكم في قَطَر، كافرًا بالآية الكريمة {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، زد على ذلك أنّ العثمانيّين الجدد الّذين يريدون تنصيبَ أنفسِهم، زورًا، أوصياء وأولياء على شرقنا العربيِّ الجريح، كما حَكَمَتْ أسيادُهم بلاد الشّام، أربعة قرون أو يزيد، بالحديد والنّار والدّمار والتّطهير العرقيّ والتّتريك والتَّجهيل والقتل وزرع الأمّيَّة بين شعبنا.
أذكرك يا عمِّي، يا شقيق والدي، «ويُذكِّرُني طلوعُ الفجرِ» بك، وأذكرُكَ شهمًا وحبيبًا وكريمًا وإيثاريًّا ومتفانيًا «لِكُلِّ غُرُوبِ شَمْسِ».وستبقى على بالي مع كلِّ كلمةٍ في غناء فيروز، وفي كلِّ بيتٍ من شعر المتنبّي والحمداني، وفي كلِّ زيارةٍ لي لغربِ حيفا ولشاطئها؛ وأراك في كلِّ جذع زيتونة، في كلِّ شجرة بلُّوط كرملنا الشّامخ؛ وأذكرك في كلِّ رحلةٍ بين أحضان الطَّبيعة الخلّابة، خاصَّةً تلك الّتي تَطلُّ على خليج حيفا، قبل المفترق النّازل إلى بلد الشَّيخ؛ وأراك في كلِّ كتاب أقرأه، وفي كلِّ رائحة حبرٍ على ورقٍ.
.ففي هذه المناسبة لا أستطيع أن أزورك في بيتك في وادي النِسناس، بل سأزوركَ في بيتك الجديد، قرب شاطئ البحر، وسأحمل باقةً من القرنفل الأحمر، وسأروي زيتونتك الصَّغيرة الّتي تلازم مكانك، لتتطَيَّبُ الأرضُ التي تحتضنُكَ بعد أن تزورَكَ حاملات الطِّيب والبَّخور والزَّيت والرِّيحان، وتتزكّى تُربتُكَ برائحةِ الغيثِ الأوَّل، وإذا أردتَ أن آتيك بشيءٍ آخر، خَبِّرني..! (حيفا)