الانشغال المفرط بالصراع، بقلم: د. رفيق حاج

مراسل حيفا نت | 02/10/2011

 

 ان هذا الانشغال الهائل في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي قد تجاوز كل الحدود المعقولة، وليس بعيدا ان تكون له اسقاطات سلبية على نفسيتنا وعقليتنا ومواقفنا  لأنه يصبغ واقعنا بلون كئيب ويجعل حياتنا مملّة وجافة ومتعطشه لاطياف جديده.

هنالك تكرار مضجر لنفس الاساليب والمضامين واستعمال لنفس المفردات التي لا تأثير لها بعد علينا لقد استولى موضوع الصراع اليهودي العربي على حياتنا الى درجة غير معقولة فهو متربص لنا في كل زاوية، ولا حديث لنا الا حوله ولا "شيطان" نتهمه سواه، فهو يتصدر عناوين صحفنا واصداراتنا ونشراتنا الاخبارية وابحاثنا واشعارنا وقد بنينا حوله نظريات وطوّرنا جيلا كاملا من المتخصصين الذين ارتقوا مع الوقت الى مرتبة فلاسفة وعباقرة.

  لقد كرّس صحفيونا وكاتبونا ومحللونا وباحثونا وملحنونا ومخرجونا اغلبية اعمالهم الى موضوع الصراع العربي الاسرائيلي ومشتقاته كالتمييز العنصري والاضطهاد القومي والغبن اللاحق في الاقلية العربية الفلسطينية، وسياسة الاستعمار، وتحيز امريكا لاسرائيل، والحصار على غزة، والتحارب بين فتح وحماس وغيرها. وهنا لا بدّ ان نتوقف هنيهة ونسأل ماذا مع الامور الاخرى؟ وماذا مع القضايا الملحة التي تخص مجتمعنا المحلي؟ هل كلها مرتبطة بموضوعي الصراع العربي الاسرائيلي وسياسة التمييز؟!

ان هذا الانشغال الهائل والمنقطع النظير في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي قد تجاوز كل الحدود المعقولة، ولست استبعد ان تكون له اسقاطات سلبية على نفسيتنا وعقليتنا ومواقفنا وطريقة تفكيرنا ونظرتنا للحياة، ولا ضمان انه يصب في مصلحة "القضية" ولا في مصلحتنا.  ان رؤية الامور بشكل حصري من هذا المنظار يصعّب علينا معرفة الحقيقه وتقصي الدرب، ويصبغ واقعنا بلون واحد ووحيد ويجعل حياتنا مملّة وجافة ومتعطشه لاطياف جديده.

لهذا السبب تجدنا نلتجئ الى مصادر معلومات خارجية أخرى لنستنير بها  ولكي نشكّل صورة متكامله عن الحدث بغض النظر عن مستواها او هوية مُصدرها. ان انشغالنا الدائم "بالقضية"، التي يبدو ان لا حلّ لها في "عهدنا"، وسركلتها (recycling) واجترارها صبحا ومساء، افقدنا الاحساس الفعلي بها وجعلنا اناسا لامبالين منغلقين على انفسنا وبما أن مأساتنا صعبة وواقعنا مرير فقد انتقلت مرارته الى نفوسنا والى اذهاننا كانتقال طعم الثمرة الى الدودة التي تنهش منها.

من فرط جرعنا للمواد الاعلامية التي تتطرق الى التمييز، بات الشعور به يجري في عروقنا ويظهر بشكل ثابت في تصوراتنا واحلامنا ويُعيق طموحاتنا ومبادراتنا، والبعض منا راح يتهمه بتغير لون الشارة الضوئية  وتأخر سقوط المطر وانكسار المصلحه. عندما نجابه فشلا في هذه الحياة رحنا نعزوه الى التمييز دون تفكير ودون حاجة لمحاسبة الذات.

باختصار الانشغال المفرط بالتمييز افقدنا البوصلة وجعلنا عاجزين عن تقييم تحركاتنا وتصرفاتنا وقراراتنا ومشاريعنا وقدرتنا على الحسم والحكم والاستنباط لأننا نشأنا وترعرعنا على عقلية "الضحية". السؤال الذي يطرح نفسه هو "هل كل ما ألمّ بنا هو نتيجة سياسة التمييز والاضطهاد القومي؟ "بالاضافة الى ذلك، ان نصب موضوع الصراع في مركز حياتنا واختيارنا له بشكل تلقائي كعنوان لابحاثنا ودراساتنا على حساب مواضيع اخرى يمسّ بنزاهتنا المهنية.

ان اغلبية الابحاث ورسائل الماجستير والدكتوراة في علم النفس والاجتماع والاقتصاد التي قام بها طلابنا وباحثونا تتمحور حول واقعنا كعرب في هذه الدولة وكاتب هذه المقالة واحد منهم، وهذا من شأنه ان ينتقص من مصداقية النتائج المستخلصة منها وذلك لوجود آراء مسبقة لدى الباحث. لهذا السبب نلمس استخفافا معينا لدى الجهات الرسمية والاعلامية بخصوص نتائج الابحاث التي يصل اليها الباحثون العرب حيث يفضلون الرجوع الى ما قاله المستشرقون عنا.

انا شخصيا فقدت أي احساس تجاه "التحليلات السياسية" التي يقوم به اغلبية محللينا واعلاميينا، وما اكثرهم، حول الصراع اليهودي- العربي او حول المستجدات السياسية الاخيره واجدها خاوية من التجديد والابداع وروح الدعابة. هنالك تكرار مضجر ومنفر لنفس الاساليب والمضامين واستعمال لنفس المفردات، لدرجة انك تستطيع ان تكمل الجملة لوحدك بعد قراءة اول كلمتين منها. بعد ثوان معدودة من قراءة "المقالة السياسية" تجد عينك قد تاهت عن السطر التالي وقفزت الى السطر الذي بعده او رجعت على نفس السطر، او انزلقت الى اسفل الصفحة لتقرا دعاية او تهنئة او او اية مادة غير هامة.

في كثير من الاحيان نلتجئ الى قراءة مجلات فنية هابطة او ملاحق لصحف عبرية "تقطر سمّا" من اجل تغذية اعيننا بالوان ومواضيع اخرى.  نريد استراحة من قراءة التحاليل السياسية لصالح مواد عن حالتنا النفسية وعلاقتنا الزوجية وتربية اولادنا وعن مواقع جغرافية مثيرة في العالم. نريد ان نقرأ تحليلات ادبية وسينمائية عامة لا تخص الصراع وانما مواضيع انسانية عامة. نريد ان نقرأ ونطّلع على مواضيع تخص الاناقة والصداقة والعلاقات العاطفية والجنسية والتدبير المنزلي وتصميم البيت والعناية بالحديقة.

على ما يبدو ان كتابنا يعتبرون هذه المواضيع لا تليق بهيبتهم ومكانتهم المهنية او السياسية او انهم يرون بها امورا جانبية عديمة الاهمية ويصرون على اطلاعنا حول رؤيتهم السياسية "الثاقبة" وقدراتهم التعبيرية الفائقة والتي لولاها لكنا "سنتخبط في ظلام دامس". هذه ليست دعوة للعزوف عن النضال او اشارة  للتقليل من اهميته، لكن هناك حاجة ماسة لتقييم الجهود والمصادر التي بذلت من قبل الاحزاب والجمعيات ووسائل الاعلام ومدى نجاحها في تغيير واقعنا.

هنالك حاجة لاعادة ترتيب الاوراق من جديد ونصب سلم افضليات يلائم متطلبات الساعة. لقد تحولنا مع الوقت الى ماكنة احتجاج اوتوماتيكيه تعمل اربعة وعشرين ساعة في اليوم دون ان يتواجد سوق لبيع ما ننتجه. نريد ان نرى ونسمع ونقرا كيف خرجت اقليات مضطهدة بالعالم من ازمتها ولحقت بركب التطور. كفانا بكاءً ونحيبا على حالنا. يقول المثل العامي "الزائد اخو الناقص". دعونا نستنشق هواء نقيا ونتذوق اطعمة اخرى. لقد ولدنا لنعيش وليس لنناضل. حتى النضال وُجد من اجل العيش الكريم ولا نضال من اجل النضال!  

بإمكان القراء  ارسال ردود فعلهم الى البريد الالكتروني:

haj@netvision.net.il  

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *