جاءَني صديقي حسن لتصليح واجهة غرفة استقبال الضُّيوف، التي تُشرف على منطقة خليج حيفا، وتُطلُّ على السّاحل الشّاميِّ لبحرنا الأبيض، وتُكشِف لنا منظر البحر الرّائع في زُرقتِهِ النِّيليّة وفي سمائه الّتي لا تضاهيها سماء، وتُطِلُّ على مساحة واسعة وشاسعة، ما بين رأس النّاقورة شمالًا، بصخوره الكلسيَّة البيضاء كالثّلج ومنطقة أنف الغزال جنوبًا، حيث يقع مزار سيّدنا الخضر قرب شاطئ وادي الجمال ودير مار الياس عند قمَّة الكرمل المُطلَّة على البحر، فضلاً على إشرافها على أحياء مدينة حيفا العربيَّة، المحطَّة ووادي النِّسناس ومنطقة الجامع الكبير وقبَّة عبّاس والألمانيّة والموارس.
وتُطلُّ شرفتنا، كذلك، على سلسلة جبال الجليل شرقًا، حيث ترى مدينة عكّا وبعض القرى التي تدور في قضائِها، وتشاهد أيضًا، ما وراء هاتيك الجبال، سلسلة جبال الشَّيخ السُّوريَّة اللبنانيَّة، حين تكون الرُّؤية واضحة والسَّماء صافية، وترى منطقة الخليج من البيت وكأنَّك تنظر إلى خطوط كفِّ يدِك..
وحين أتمَّ صديقي من تصليح الواجهة، وانفرجت رؤيتُنا وأساريرُنا لذلك المنظر الخلّاب، جلسنا على شرفة بيتنا نرتشف قهوة الظّهيرة والعافية، ونُمتِّع ناظريْنا بالبحر ونتمتَّع بغسل أعيننا برذاذ البحر ونَفَسِ عروس الكرمل ونَنْعَم ممّا أنعم اللّه علينا به من «جنَّة فتَّانَة للنّاظرين»؛
وبدأ يقصُّ عليَّ حكايته مع الحاخام الذي استقلّ سيّارة صديقي، بعد انتظار طويل وعسير دون أن يجد أحدًا يقلُّه إلى بيته، فقال له: أنت أحسن يهوديّ في هذه البلاد، وفي هذه المنطقة تحديدًا.. وبقي صاحبنا أذنًا صاغيةً لحكايات هذا الحاخام عن القيم الأخلاقيّة والتَّربية الحسنة التي فقدها شعبه، دون أن يعرف أنّ صديقي من الأغيار.
وحين وصلا منطقة السُّوق وهمَّ الحاخام بالنّزول من السَّيّارة، مرَّ بقربهما شيخُنا الجليل، رشاد أبو الهيجاء، الذي نكنُّ له الحبّ والودّ والاحترام والتّقدير، فقام صديقي بإلقاء التَّحيّة عليه، قائلاً للحاخام: هذا هو شيخنا.
حينها بدأت تتبدّل ألوان سحنة الحاخام وتتشنَّج عضلات وجهه، وغادر دون أن ينبس ببنت شفة وكأنَّ على رأسه الطّير..ما كنتُ لأسرد هذه القصَّة عليكم لولا صدفة تزامن قراءتي لكتاب أديبنا الكرمليِّ سلمان ناطور (ستُّون عامًا، رحلة الصَّحراء – ص 240) وهو يحدِّثنا حين صادف في طريقه إلى حيفا، قرب سجن شطَّة، رجلاً عجوزًا يهوديًّا يلوِّح بيده ليأخذه سائقٌ ما ويقلَّه إلى بلدته، بعد أن تعِبتْ يمينه في استجداء السّائقين المارِّين بقربه، ليسافرَ مع أحدهم..
بعد أن صعد العجوزُ إلى السَّيَّارة بدأ يكيل الشُّكرَ الجزيل للسّائق قائلاً: «أنت يهوديٌّ طيِّبٌ.. أنت اليهوديُّ الوحيد الذي بقيَ في هذه البلاد..»، وبعد أن أعاد على نفس الكلام حول طيبة السّائق وصدق يهودِيّته الفريدة والأصيلة، قال له مودِّعًا حين وصل بلدته: «شكرًا لك وسلام عليك.. سلام على «عام يسرائيل» – شعب إسرائيل»، فأجابه السّائق: «سلام عليك وعلى «عام يسرائيل» وعلى الشّعب الفِلسطينيّ أيضًا»، حدَّق العجوز في السّائق و«انكَتَمَ تمامًا».
لقد أصلح صديقي واجهة البيت ووضحت رؤيتنا للسّاحل والجبل، وسُررنا بالمشهد الأخّاذ، وأعاد إلينا رؤيتنا الجميلة؛ فكم من حسنٍ وكم من سائقٍ سيمرُّ عليهم، وكم من موجة ستلاطم ساحل سيّدنا الخضر، ليروا الحقيقةَ على حقيقتِها؛ وكم نحن بحاجة إلى كشف الحقيقة وإزالة الضَّباب عن عيونهم، لأنَّ ما تعلّموه وعلّموه هو وهمٌ وسرابٌ وخيال، وإلى أولئك الّذين توَضَّحَت لهم الطَّريق وتبنُّوها، رفاقي، فلهم ألف تحيَّة وتحيَّة.
(حيفا)
(تصوير: وائل عوض)