خمسون عامًا مضت وما زال الغموض يكتنف الجريمة البشعة النكراء ويلفّ الشهداء!

مراسل حيفا نت | 18/09/2011

 

 

خمسون عامًا مضتوما زال الغموض يكتنف الجريمة البشعة النكراء ويلفّ الشهداء

 

تقرير: مطانس فرح

تصوير: وائل عوض

يوم الأحد، السابع عشر من أيلول من عام 1961، لم يكن يومًا عاديًّا؛ فقد حُفر في ذاكرة أهالي حيفا.. خمسون عامًا مضت على استشهاد جورج شاما، جريس بدين، ريمون مارون، فايز سيّد أحمد، ومحمود عبد الأسعد، الّذين خرجوا من بيوتهم شبابًا في عمر الزهور وعادوا إلى أهاليهم في حيفا وأمّ الفحم وسخنين، محمولين على الأكفّ والأكتاف، ملفوفين بالأكفان وآثار التعذيب محفورة على أجسادهم والرصاصات تمزّق صدورهم.حينها، ثارت الجماهير العربيّة وخرجت بعشرات الألوف إلى الشوارع وأعلنت موقفًا موحّدًا استنكارًا للجريمة النكراء، وتحوّلت جنازات الشبّان إلى مظاهرات غضب، ولحقتها الإضرابات والمسيرات التي عمّت العديد من المدن والقرى الفِلَسطينيّة في الداخل.حينها طالب أهالي الشهداء وممثّلو الجماهير العربيّة بالتحقيق في ملابسات قتل الشبّان ومحاكمة القتلة، ولكن الحكم العسكريّ قمع الاحتجاجات ومنع نشر الحقيقة..!

وحتّى اليوم، لم تُنشر تفاصيل قتلهم ولم تتمّ محاكمة المجرمين. وقد عملوا – ولا يزالون – على محو هذه الحادثة الأليمة من ذاكرتنا الجماعيّة – هذا ما جاء ضمن منشور وزّع إحياءً للذكرى الخمسين لاستشهاد الشبّان.كثيرة هي الأحداث التي تجري على مدار السنين، ولكن قليلة جدًّا تلك التي تُحفر في ذاكرة الشعب، ومقتل الشبّان الحيفاويين بظروف غامضة، بجريمة بشعة نكراء، هزّت الحجر قبل البشر، هو واحد من الأحداث التي حُفرت في ذاكرة أهالي حيفا جميعًا، وما زال الكثيرون يذكرونها بأدقّ تفاصيلها لهول بشاعتها، رغم حجم غموضها!!خمسون عامًا مضت على الجريمة البشعة التي هزّت أهالي حيفا العرب، ولا جديد تحت الشمس!

فالغموض ما زال يكتنف القضية، والحقيقة سراب في سراب.. فمنذ ذلك الحين وحتّى لحظة كتابة هذه السطور، ترك معظم أقارب الشهداء البلاد، بعد أن تعرّض بعضهم لتهديدات عديدة من قبل جهات الأمن المختلفة.. واحد من أشدّ الملفّات غموضًا، يثير تساؤلات عدّة، وينتظر إجابات كثيرة، ولكنّه يبقى – للأسف – مجرّد ملفّ مُدرج في أسفل أدراج الحكومة، تجاهلته عمدًا، فلفّه الغموض!ولو قمتَ ببحث عبر شبكة الـ«إنترنت»، محاولًا الوصول إلى أيّ معلومات حول مقتل واستشهاد الشبّان الخمسة (ثلاثة منهم حيفاويّون)، فلن تفلح في الوصول إلى أيّ معلومات وافرة أو مهمّة. فعلى ما يبدو، قد اكتنف الغموض القضيّة ووصل حتّى شبكة الـ«إنترنت».. نعم، فلقد كان من الصعب جدًّا – خلال بحثي – أن أجد موادّ مؤرّخة تتعلّق بالحدث ذاته، أو موادّ وتقارير تلقي الضوء على تفاصيل الحادث.

إلّا أنّ شهادات الأقرباء الذين استطعت محادثتهم، والتقرير الذي نُشر في ملحق «الاتحاد» في السابع من أيار عام 1999 للزميلة ميسون أسدي، ومساعدة الناشط الاجتماعيّ، الرفيق يوآڤ بار، أثروا هذا التقرير. نذكّر بأنّ صحيفة «الاتحاد» كانت الصحيفة الوحيدة، صحيفة الحزب والشعب، التي غطّت تفاصيل الجريمة النكراء. وممّا ورد عن الحادث في صحيفة «الاتحاد»: «.. فقد وصلت حينها إلى وادي النسناس سيّارة إسعاف تحمل جثث الشبّان الثلاثة، وطافت بين بيوت الضحايا وأنزلت جثمان الضحية، وخلال دقائق انتشر الخبر في وادي النسناس وأصبح الشارع في حالة غليان وتحوّل غضب الأهالي إلى بركان. جنازة الشبّان الثلاثة، تحوّلت إلى مظاهرة جماهيريّة جبّارة، شارك فيها الألوف (نحو خمسة عشر ألفًا) من سكّان حيفا وخارجها. وقد رفع المشيّعون النعوش على رؤوس الأيدي وعلت الهتافات التي تستنكر الجريمة لتشقّ الفضاء.

تقدّمت الجنازة إلى أن وصلت إلى حيّ الألمانيّة، ومن هناك توّجه المشيّعيون بالمركبات إلى مقبرة الكاثوليك. أراد الجميع أن يُدفن الثلاثة جنبًا إلى جنب، إلّا أنّ المسؤولين في رعيّة الكاثوليك، وعلى رأسهم المطران حكيم، لم يسمحوا بذلك، لأنّهم ليسوا من أبناء الرعيّة ذاتها!! فتمّ دفن الجثامين في مقبرة الروم الأرثوذكس.. لقد كان واضحًا للجميع أنّ الشبّان الثلاثة اختطفوا وقتلوا» – نهاية الاقتباس.

 شهادات حيّة!  إنّ محادثاتي مع أقارب الشهداء الحيفاوييّن الثلاثة، ومقرّبين أيضًا، ما هي إلاّ شهادات حيّة لجريمة (غامضة!) بشعة نكراء وقعت قبل خمسين عامًا.. فجاءت الشهادات مؤثّرة، صادقة، ومعبّرة، تجعلك تشعر بأنّك تعيش الفاجعة التي حدثت قبل خمسين عامًا، اليوم!
 «حاولا جاهدين كشف الحقيقة.. ولكن!»  كان من الصعب التحادث مع إدمون مارون (شقيق الشهيد ريمون مارون)، فالصمت والتفكير والعودة بالذاكرة إلى الوراء سيطرت على المحادثة، فالسكون الرهيب الذي أحاطه ذكّر بالفاجعة والحدث الجلل.«ماذا تريدني أن أقول لك.. مضت خمسون عامًا ولا جديد!» – قال لي إدمون مارون، تنهّد وتابع: «من المؤلم العودة إلى الحدث نفسه، رغم أنّني أذكره وأعيشه!».وحول تلك الجريمة البشعة التي راح ضحّيتها شقيقه ريمون، حدّثني والحزن «يخنقه»: «لن أنسى هذا اليوم أبدًا. كنت حينها في التاسعة عشرة من عمري، وكان ريمون في السادسة عشرة من عمره.

كنّا نسكن في شارع مار يوحنا عندما جاءنا خبر مقتل شقيقي». وواصل حديثه، قائلًا: «كان ريمون صادقًا، هادئ الطبع، محبًّا للآخرين، وكان لديه عدد كبير من الأصدقاء والمعارف، وقد أحبّه الجميع. في اليوم الذي اختفى فيه، زار هو وصديقاه، جريس بدين وجورج شاما، في تمام السابعة صباحًا، الكنيسة..» صمت للحظات ثمّ واصل حديثه، قائلًا: «انتظرنا عودته حتّى منتصف الليل، ولكنّه لم يعد من الكنيسة. فلفّنا القلق، وقد زاد قلقنا عندما علمنا أنّ رؤوف شاما يبحث هو الآخر عن شقيقه جورج، كما علمنا باختفاء جريس بدين أيضًا، وحينها توجّهنا إلى الشرطة وأبلغناهم بأمر اختفائهم».وتابع حديثه، قائلًا: «في صباح اليوم التالي، جاءنا كلّ من: درسة شلح (كان يعمل في بلديّة حيفا) وأنيس عبود، وأبلغانا بخبر مقتل الشبّان الثلاثة!!

لقد قُتل أخي وصديقاه بجريمة بشعة ومهينة!»وفي ردّه على سؤال حول رفع دعوى والمطالبة بكشف الحقيقة، أجاب: «لقد تسلّم المحاميان الشيوعيّان، حنّا نقّارة وڤليتسيا لانچر، ملفّ القضيّة، وقد حاولا جاهدَين كشف الحقيقة، إلّا أنّ الغموض اكتنف جلسات المحكمة، وطُلب منهما إغلاق الملفّ، بادّعاء أنّ القضيّة أمنيّة، ووصل الحاكم قرارٌ من بن غوريون ذاته – حينها – أنّ المحكمة يجب أن تكون عسكريّة وبجلسات مغلقة! وهكذا أغلق الملفّ ولم نستطِع فتحه من جديد حتّى يومنا هذا»!!

 «خرج ولم يعُد»!  وفي حديث هاتفيّ لصحيفة «حيفا» مع عبلة شاما – حناني (شقيقة الشهيد جورج سليم شاما)، والتي تسكن، اليوم، في قرية المكر، قالت وهي تتنهّد وتتذكّر الأحداث: «ما زلت أذكر الأحداث بأدقّ تفاصيلها! كيف يمكنني أن أنسى؟! لقد مضت خمسون عامًا ولكنّ الجرح لم يندمل بعد. في ذلك اليوم المشؤوم كنت أعمل ممرّضة في مستشفى «روتشيلد» («بني تسيون»، اليوم) في ورديّة ليليّة؛ وعند عودتي إلى المنزل في ساعات الصباح، كانت والدتي – وبسبب عدم وجود أفران في تلك الأيام داخل المنازل – قد طلبت من شقيقي المدلّل، صغيرنا الوسيم (جورج)، أن يذهب إلى الفرن لطهو صينيّة الكفتة التي أعدّتها، لكنّه كان في عجلة من أمره، أراد الذهاب برفقة أصدقائه إلى الكنيسة لاستقبال وفد من الأجانب..!».

تتنهّد وتكمل حديثها: «تأخّر أخي ولم يعد إلى المنزل؛ بدأت الشكوك تساور والدتي (كاملة خميس – شاما/شقيقة المرحوم صليبا خميس) والقلق يلفّها، فقد شعرّت بأنّ مكروهًا ما قد أصاب جورج؛ فلم يكن من عادته أن يتأخر عن البيت كثيرًا، فجنّ جنونها.. ولدى عودة أخي الأكبر (رؤوف) من عمله، طلبت منه والدتي البحث عن جورج الذي لم يعد إلى المنزل».وتضيف: «اعتلى رؤوف الدراجة الناريّة (الماتور) وجال يفتّش هو ومجموعة من الشباب عن أخي جورج، فالتقى إخوة وأصدقاء الفتيين، جريس بدين وريمون مارون، وقد كانوا – بدورهم – يفتّشون عن فقيديهم».وتقول عبلة: «لم تتكلّل محاولات البحث بنجاح، إلى أن جاء ابن عمّي، رضا شاما، وكان يعمل في بلديّة حيفا، ليعلمنا أنّ هناك خبرًا بمقتل جورج وأنّ جثّته موجودة في معهد التشريح «أبو كبير»».

وتشير عبلة إلى أنّ أخاها كان في عمر الورد (17 عامًا) لدى استشهاده.. خرج ولم يعد!
 «لا نعلم شيئًا.. غموض وغموض وغموض!»  وحول سؤالي لها إن كان هناك أيّ معلومات عن سبب مقتل شقيقها، أجابت: «لا نعلم شيئًا ولا أيّ تفاصيل عن هذه القضية، فهذه القضية يلفّها الغموض». وأضافت: «لقد عمل الحزب الشيوعيّ جاهدًا على متابعة القضية من خلال المحاميين الشيوعيّين، حنّا نقّارة وڤليتسيا لانچر، إلّا أنّ الملفّ أغلق لأسباب أمنيّة!».وتابعت عبلة حديثها لصحيفة «حيفا» قائلة: «لقد أُشيعت إشاعات عدّة حول تلك القضية، فالبعض قال إنّه رآهم قرب الكنيسة والبعض الآخر ادّعى أنّه رآهم في الميناء، ومن أصعب الإشاعات كانت تلك التي اختلقتها الحكومة، أنّهم حاولوا التسلّل عبر حدود إسرائيل وغزّة فأطلقت عليهم النار!». وفي ردّ على سؤالي إن كان قد ذكر شقيقها، فعلًا، أو فكّر مرّة في محاولة الهروب أو التسلّل عبر الحدود، قالت: «شقيقي إنسان بسيط وطيّب القلب. لم يكن رجل سياسة، ولم تشغله السياسة بشكل خاصّ، ولم يكن صاحب سوابق ليفكّر في الهرب».

وأضافت: «لم يذكر جورج أمامي بتاتًا شيئًا عن الهروب، ولم يفكر في الهروب، أيضًا. وأساسًا، لا أعتقد أنّه كان يقوى على الوصول إلى الحدود بعد أن كان يتعافى إثر عمليّة جراحيّة أجريت له في إحدى كليتيه».وأكّدت أنّ الغموض ما زال يخيّم على هذه القضية على مدار خمسين عامًا، وسبب مقتل الشبّان الثلاثة الفعليّ لم يُعرف بعد!.
 «تهديدات.. وترهيب.. وتهجير!»  وفي استفساري عن متابعة القضية وملاحقة المجرمين، قالت: «لم يهدأ لنا بال ولم نسكت، وأوصلنا القضية إلى الرأي العامّ العالميّ وإلى الأمم المتّحدة، مطالبين بالكشف عن الحقيقة ومعاقبة المسؤولين المجرمين، ولكن لا حياة لمن تنادي! فنحن – حتّى هذه اللحظة – لم نعرف هُويّة القتلة وسبب القتل بعد!!» وأضافت: «حاول أخي الأكبر متابعة القضية، مِرارًا وتَكرارًا، لمعرفة حقيقة ما حدث ولتقديم المجرمين إلى المحاكمة، إلّا أنّه جوبه بملاحقة وبسياسة تخويف وترهيب وصلت حدّ التهديد بالقتل، فما كان به إلّا أن ترك البلاد وفرّ إلى كندا عام 1967، وقد لاحقته التهديدات حتّى هناك، أيضًا!».

 «قُتل على شاطئ عكّا.. والقاتل..!»  وتحدّثني عبلة متأثّرة، قائلة: «في ذكرى الأربعين، طرق باب منزلنا شخص غريب، فتحت الباب وإذ بي أرى شابًّا ملثّمًا، أعتقد أنّه كان في الثلاثينيّات من عمره، سألني ما إذا كان هذا منزل الشهيد جورج شاما، أجبته بالإيجاب. فقال لي إنّ الشبّان الثلاثة قُتلوا على شاطئ عكّا، وليس على الحدود كما تدّعي الحكومة، وإنّ القاتل..!! وفرّ من المكان!». «اختفى واختفت معه الحقيقة!» – اختتمت عبلة حديثها متألّمة متحسّرة!

 «قضيّة شعب!»  أمّا يوهانس برزكيان (ابن شقيقة الشهيد جورج شاما)، والذي كان يبلغ من العمر أربعة أعوام لدى وقوع الحادث، فيذكّرنا بأنّه سيتمّ إحياء ذكرى مرور خمسين عامًا على استشهاد الشبّان الثلاثة يوم غد، السبت، في تمام الساعة الرابعة في مقبرة الروم الأرثوذكس، بوضع أكاليل الورود وإلقاء بعض الكلمات والتجمّع للتذكّر والتذكير بهذه الجريمة النكراء.ويقول لصحيفة «حيفا»: «ندعو – عبر صحيفتكم – رجال الدين، من المسلمين والمسيحيين، كما ندعو الجميع، للمشاركة في إحياء ذكرى الشهداء؛ فهذه قضيّة شعب وليست قضيّة عائلة».

ويضيف: «أنا لم أعِش الحدث؛ فقد كان عمري أربع سنوات.. ولكنّي أذكر أنّ الحزن الشديد والغموض والصمت لفّت هذا الحدث. وعلمت أنّها أكبر جنازة تجري في حيفا».وينهي حديثه، قائلًا: «للأسف الشديد، لقد طُمست المعلومات، ولا أحد يعلم – حتّى يومنا هذا – ما جرى، فعلًا.. ونحن إذ نحيي اليوم ذكرى الشهداء، نطالب بفتح الملفّ من جديد، لمعرفة ما حدث ولمعاقبة المسؤولين.. فهذه قضيّة شعب ومن حقّ الشعب أن يعلم!».
 «تركوا البلاد ورحلوا..!»  «من الصعب أن تجد قريبًا من الدرجة الأولى للشهيد جريس بدين» – يقول لي بدين بدين، أحد أقرباء الشهيد بدين.ويضيف: «القرابة بعيدة، ولكن كانت تربطنا علاقات بالعائلة.. أنا لا أعرف الشهيد؛ فلم أكُن – حينها – قد بلغت السنة الأولى من عمري بعد، ولكن مع مرور الوقت، وإلى أن بلغت العاشرة من عمري، كنت أذكر أنّ هناك زيارات متبادلة بين أفراد العائلة.. ولكنّ إخوة الشهيد تركوا البلاد، مُكرَهين، وسافروا إلى كندا برفقة والدتهم (أم سليمان).. فقد هاجر سليمان وسليم ووالدتهما وتركوا البلاد!».

ويستطرد، قائلًا: «لا أذكر الكثير، ولكن أعلم أنّ سليمان فتح مَرْأبًا (كراجًا) خارج البلاد، وظلّ يعمل فيه إلى أن وقع ضحية قتلٍ – للأسف – بيد أحد رجال «المافيا»!!».ويختتم حديثه، قائلًا: «سمعت بالجريمة التي وقعت قبل خمسين عامًا وراح ضحيّتها خمسة شهداء، من أناس كثيرين عاشوا أحداثها، ولكن من المؤكّد والواضح أنّ الغموض كان يسيطر على كلّ ما حدث!».
 «كلام فارغ.. مجرّد إشاعات!»  أمّا الممرّضة نعمة شحادة، والتي عملت – حينها – في مستشفى «روتشيلد» («بني تسيون»، اليوم)، والّتي عاينت جثمان المرحوم جورج شاما، فأجابتني فورًا – لدى سؤالي عمّا تذكره من الحادثة – بالقول: «لن أنسى كي أذكر!! أذكر التفاصيل بأدقّها». وأضافت: «لقد كنت على علاقة حميمة جدًّا بعائلة الشهيد المرحوم جورج شاما، كانت عائلتي تسكن في شارع «شيڤات تسيون» (ستانتون) وكانت عائلة شاما تسكن في شارع مار يوحنّا في حيّ وادي النسناس. عرفت جورج جيّدًا، فقد كان دمث الأخلاق، مهذّبًا وخجولًا».تتنهّد وتكمل حديثها: «كيف يمكن لشابّ أن يصل حدود غزّة بعد أن كان يتعافى من عمليّة جراحيّة أجريت لإحدى كليتيه؟!! كلام فارغ.. هذه مجرّد إشاعات أطلقتها الحكومة! للتستر على أمر ما!!».

وفي ردّ على سؤالي حول ليلة الاختفاء، أجابت: «حيفا لم تشهد أحداثًا بحجم هذا الحدث.. فقد هبّ أهالي حيفا، شيبًا وشبابًا، رجالًا ونساء وأطفالًا.. لقد هزّت هذه الحادثة مشاعر الجميع. وأذكر جيّدًا، وبعد عمليات البحث الليليّة، كيف تحوّل القلق على مصير الشبّان الثلاثة إلى غضب عارم لدى أهالي حيفا في صباح اليوم التالي؛ عندما وصلنا نبأ مقتلهم!».
 «آثار التعذيب والتنكيل واضحة..!»  وفي استفساري عمّا رأته عيناها، لدى معاينة جثمان الشهيد جورج شاما، تقول والغضب والألم يعتصرانها في آنٍ واحد: «بحكم مهنتي كممرضة، كان عليّ الاعتناء بجثمان المرحوم جورج شاما.. ما زالت صورة الجثمان محفورة في ذاكرتي حتّى يومنا هذا، لهول وبشاعة ما رأته عيناي!! لأشهر عدّة لم يغمض لي جفن..!!»

وتضيف: «عاينت جثمان المرحوم جورج عن قرب.. ويا لهول ما رأيت واكتشفت!! كانت آثار إطلاق الرصاص واضحة في رأسه ووجهه وحتّى فمه، عدا آثار الرصاص بين فخذيه!! لقد هشّموا وجهه.. فآثار التعذيب والتنكيل بدت واضحة… وكان جليًّا أنّه أرغِم على المشي على حديد ساخن أو شيءٍ ما؛ لأنّ آثار التنكيل كانت واضحة وبارزة على قدميه، أيضًا!! كانت الكدمات وآثار التنكيل واضحة وتغطّي جسده!! تعذيب وحشي!!».وتؤكّد شحادة أنّ آثار الرصاص والتنكيل على الجثمان أكبر دليل على أنّ القتل تمّ عن قصد وبعد تعذيب وتنكيل طويلين، فآثار الرصاص لا تشير إلى عمليّة إطلاق عن بعد لدى محاولة التسلل والهروب عبر الحدود – كما ادّعت السلطات!!
 «ترهيب أهالي حيفا!»  وتقول شحادة لصحيفة «حيفا»: «على ما يبدو كان الهدف ترهيب أهالي حيفا.. فلم يكن اختيار الشبّان الثلاثة صدفة، باعتقادي.. لقد اختاروا ثلاثة شبّان من ثلاث رعايا مسيحيّة مختلفة (مورانيًّا، كاثوليكيًّا، وروميًّا). جمعوا بين ثلاث رعايا، ولاحقًا علمنا بمقتل مسلمين.. فعلى ما يبدو كانت هناك نيّة لترهيب أهالي حيفا وتخويفهم!».

 «بدنا راس بن غوريون!»  وعن الجنازة المهيبة التي جرت في حيفا تشييعًا لجثامين الشهداء الثلاثة، قالت نعمة شحادة: «أذكر أنّنا أقمنا حفلة زفاف للشبّان الثلاثة وحملنا بدلاتهم فوق أطباق رقصنا بها كما كان متّبعًا في حفلات الزفاف.. وتحوّلت الجنازة إلى مظاهرة كبرى شارك فيها ألوف المشيّعين، وهتفنا معًا: «لا «دِيّة» ولا هديّة، ولا مصاري نقديّة.. بدنا راس بن غوريون، نلعب فيه الكوريّة»..وأضافت: «أذكر، أيضًا، وفي ذكرى الأربعين، كيف منعت السلطات الشباب العرب من خارج حيفا من المشاركة؛ خوفًا من أن تتحوّل الذكرى إلى مظاهرة ضخمة. ولقد ثارت ضجة كبرى حول هذه الجريمة البشعة النكراء، استمرّت أشهرًا عدّة.. وقد فرضت خلالها السلطات وأجهزة الأمن منع التجوال!».وتنهي شحادة حديثها، قائلة: «رغم أنّ المحاميين، نقّارة ولانچر، حاولا متابعة القضيّة، والوصول إلى الحقيقة، أغلق الملفّ لأسباب أمنيّة! حتّى إنّ وصول القضية إلى هيئة الأمم المتّحدة لم يجدِ نفعًا كذلك، وما زال الغموض يكتنف هذه الحادثة النكراء حتّى يومنا هذا!».

 «يُشاع الخبر كالنار في الهشيم»  أمّا الشيوعيّ العريق عبّاس زين الدين (أبو عصام)، فيذكر هو الآخر تفاصيل عدّة، ويخبّر صحيفة «حيفا» بها بالقول: «أذكر جيّدًا العلاقات الطيّبة والحسنة التي سادت بيت أهالي حيفا؛ كنت – حينها – أعمل في الجمعيّة التعاونيّة «قوت الكادحين» التي دأبت على مساعدة عدد كبير من المواطنين العرب وإمدادهم بالمؤن الغذائية وما إلى ذلك. كان من السهل أن يُشاع الخبر كالنار في الهشيم في حيّ مثل وادي النسناس، سكانه جميعًا كانوا عائلة واحدة كبيرة».يسكت للحظات، ثمّ يتابع: «إشاعات كثيرة أُشيعت لدى اختفاء الشبّان الثلاثة، فالبعض قال إنّه رآهم في الميناء، والبعض الآخر أكّد أنّه التقاهم في الكنيسة.. وهكذا، وبدأت الإشاعات تزداد وتنتشر بين أهالي حيفا. ولكن القلق على مصير الشبّان الثلاثة بدأ يزداد عندما لم يعودوا حتّى ساعات المساء إلى بيوتهم. ولم يقتصر القلق على الأهل بل عمّ أهالي الحيّ جميعًا، خصوصًا أنّ وادي النسناس كان تجمّعًا مركَزيًّا للسكان العرب في مدينة حيفا، والعلاقة بين السكان كانت علاقة أخويّة وأكثر».

 «سياسة عليا هدفها استفزاز العرب»  ويكمل حديثه، قائلًا: «لقد كان ردّ أهالي حيفا صاخبًا، وصاخبًا جدًّا، خصوصًا بعد رؤية الجثامين وآثار التعذيب التي دلّت على أنّ الشبّان لم يحاولوا الهروب عبر الحدود – كما ادّعت السلطات! لقد شارك في تشييع الشهداء الألوف من سكان حيفا، عربًا ويهودَ ممّن كانوا يسكنون الحيّ. لم ينسَ أهالي حيفا هول الفاجعة ولا الشهداء لمدّة طويلة؛ فعلى ما يبدو كانت هناك سياسة عليا هدفها استفزاز العرب بقتلها شبّانًا في عمر الورد. وقد دفن الأصدقاء الثلاثة معًا في مقبرة الروم الأرثوذكس.. وأدّت هذه الجريمة إلى غليان الشعب في حيفا!».

 «للحزب الشيوعيّ دور كبير»  ويؤكّد زين الدين: «لقد كان للحزب الشيوعيّ دور كبير، وكان يحظى بثقة كبيرة وعمياء من قبل غالبية الجماهير التي كانت تلتف حوله.. فصحيفة «الاتحاد» كانت حينها المصدر الأساس للأخبار والمعلومات ونشر كلّ كبيرة وصغيرة عن القضية. كما خصّ الشاعر محمود درويش الشهداء بقصيدة، وكانت هناك كتابات ومساهمات للشعراء: سميح القاسم وعصام العبّاسيّ وحنّا أبو حنّا. كما كان له دور في متابعة القضية بيد المحامي حنّا نقّارة والمحامية ڤليتسيا لانچر، عدا أنّ للرفاق القياديّين، أمثال علي عاشور وزاهي كركبي وصليبا خميس (قريب عائلة شاما)، وتوفيق طوبي، وغيرهم، باعًا طويلًا في متابعة القضية».ويختتم (أبو عصام) حديثه، قائلًا: «إنّ الواقع دحض جميع الإشاعات القائمة، فآثار إطلاق النار عن قرب وآثار التعذيب، هي أكبر دليل على أنّ هناك مَن أعطى الأمر بقتلهم، فلم يقتلوا على الحدود! الحقيقة ما زالت غامضة!! ولكنّ كلّ مَن عاصر هذه الفترة يعرف حجم الجريمة وهولها، لأنّها محفورة في الذاكرة، ومن الصعب أن تُمحى».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *