74 عامًا على النكبة أمي لطيفة تروي حكايتنا*

مراسل حيفا نت | 15/05/2022

74 عامًا على النكبة
أمي لطيفة تروي حكايتنا*

“اطلعنا يمَّه أول ناس سنة الثمانية وأربعين. طلعنا في عزّ الشتا. حملت أخوك راسم، وعمره شهرين في قفّة. وأخذت معي صُرة أواعي، وأكل عشان الطريق. ما انت عارف، الطريق طويلة والجوع كافر. من قلّة عقلي، حملت معي جهاز عرسي. بعدي صغيرة هذاك الوقت. شو عمري فكرك لمّا هاجرنا، يدوب تسعتعشر سنة. يا حسرة عليَّ، شتت الدنيا علينا يمّه واتبهدلنا. جهاز عرسي اللي جبتو معي خِرِب. أقول لك ليش استعجلنا؟ اسمعنا ناس قالو اليهود دخلت ع المجدل، قلنا لنرحل قبل ما يذبحونا. بعدين الغارات يمّهَ، طيارات اليهود لا كنَّت ولا ونَّت وهيَّ ترمي قيازين. ظلت جمعة، سبع تيام وهي ترمي قيازين، الواحد منها بيهد عشر دور وأكثر. كل ثلاث طيارات تيجي مع بعظ، تْزِن وتْجنِّح وترمي. والله في ناس قالت الغارات اللي صارت ع المجدل ما صارت ع بَرلين. وإنُّو في غارة واحدة منها راح أكثر من ثلاثميت مجدلاوي. مش بيت أبويا، سيدك نصر الله، انظرب. قلت لأبوك: يا خليل بدي أروح أشوف أهلي. قال لي: انتي مجنونة يا مرة؟! تروحي والغظب نازل علينا من السما والأرظ … المجدل مولعة نار، اقعدي واسكتي. ترجّيته: هذول أهلي يا خليل ولازم أشوفهم..بيتهم انهدّ ومش عارفة مين منهم عاش ومين مات. صرَّخ فيَّ أبوك بصوت عالي، ما انت عارفه أبوك قديش عصبي، ورمى عليَّ يمين الطلاق. صرت أهدّي فيه: مالك يا بو ربعي. رِجِع عادها وصرَّ من جديد: عليَّ الطلاق بالثلاثة ما انتي رايحة. لمِّي اغراظك وهاتي هلولاد وخلينا نرحل. والحمد لله يمَّه، بعدين اعرفنا إنّو أهلي كلهم نجو من الغارة. كانو كلهم بريت البيت لمّا سقط القيزان عليه. بس بيتهم صار تراب يمَّه. يومتها، في نفس اليوم الله وكيلك، انقتل محمود سلمان المدهون هوَّ وعشرة مهاجرين اتخبو عندو في الملجأ اللي تحت بيته . كلهم مهاجرين، من الفلاحين اللي شردو من القرى اللي جنب المجدل. أيامها انتلت البلد بالمهاجرين. وبنت حسن العالول ماتت هي وابنها وبنتها، كلهم اتكومو فوق بعظ الله وكيلك. والحاج محمود الشيخ سلامة انقتل ومعه خمس ست نسوان. وغازي خليل مهدي، وجمال مهدي، ومحمود المجبر، وخليل شبلاق، بياع النمورة، والله يمَّه مات وهوَّ ورا عربايته. قطيعة تقطع النمورة واللي بياكلها، هوّ في حدا بيشتري نمورة في الحرب. نصيبة يمَّه وابراهيم الهواس، الله يرحمو، مات هو ومرته واولاده. وكمان الشيخ محمد زويد وعياله. ومين اعدلك واللا مين؟ اني يمَّه مش حافظاهم. أني عقلي مش دفتر. هذول اللي اسمعت عنهم وبتذكر أساميهم. الناس بتقول إنّو أكثر من ألِف ماتو في الحرب. يومها صرخت مرة مجدلاوية ما حدن عارفها مين: طقطقت جنَّحت. شافت الطيارات وهي بتجنِّح وبترمي قنابل وصرخت: طقطقت، جنَّحت، يا ريتهم قسماو. ياريت يمَّة قسَّمو لبلاد بينا وبين اليهود، يا ريت. والله ميت مرّه أحسن من الشحططة اللي تشحططناها. واللا من هالوظع اللي احنا فيه. ليش، فكرك هالايام حالتنا أحسن؟!
“بدّي اخرفك كيف اطلعنا، واظحك عليّ زي ما بدك. وأني بتناقر مع أبوك، لما حلف يمين الطلاق، ما شفنا إلا عمتك الحاجة وعمك محمود عابرين علينا بيصرخو بصوت واحد: إيش قاعدين تعملو والبلد كلها طفشت! والحقناهم يمّه دوغري. اتجمعنا احنا وبيت عمتك، وسيدك سليم، وبيت عمك محمود، وعمك اعليم، وبيت الأشقر، بتعرفهم بيت كتيتة، أصلهم من دار الحلاق، اللي ساكنين في حارة البشاشته في خان يونس. وطلع معنا ناس ثانيين. اطلعنا كلنا في سيارة شحن اتأجرناها شراكة، اندبينا كلنا فيها زلام ع نسوان على ولاد ع كبار ع زغار، الله وكيلك كلنا فوق بعظنا زي شوالات التبن. ودّانا الشحن ع هربيا. نمنا فيها عند ناس، الله يخلف عليهم، ويكثِّر خيرهم. والله أربع تيام واحنا نايمين عندهم يمَّه. بعدين دشَّرنا هربية ورحلنا ع غزة. أكثر من عشره كيلو امشيناها مشي ع رجلينا بين سوافي الرمل، والمطر نازل علينا، والريح تصفِّق تلطم وجوهنا وقفانا. نص الطريق والحاج حسين، جوز عمتك، حاملك فوق اكتافه، الله يرحمه، طول عمره بيحبك…

“المسا مسينا في غزة. ومن هناك ارجعنا استأجرنا سيارة شحن، وكفّينا دوس دوغري ع خان يونس. اجينا نتأجر بيت، لقينا بيت الطين، اللي زي الخص، وما بتنام فيه الأرانب، بسعر الذهب. نصبنا خيام. كل من جاب معه سجادة، نصبها على عمويد وعمل منها خيمة، حط فيها غراظو ونام. احنا نمنا كلنا، أول ليلة، تحت سجادة عمتك. بقت كبيرة، طويلة وعريظة. بعدي بتذكر هذاك اليوم، نصبها أبوك وعمّك. راح عمك محمود اشترى عمودين من البلد. ولما رجع، دق العمودين هوَّ وأبوك في الأرظ، وربطو بينهم حبل، ومدو السجادة فوق الحبل على الجهتين. أول ما صارت خيمة، وقفت عمتك تحتيها, فردتْ حالها، راسها خبط في سقف الخيمة. اضطرت تِحني ظهرها. والله يمَّه عمتك طول عمرها مفرودة مثل نخلتها اللي في بيتها في المجدل، وعمرها ما وطَّت راسها. هذاك اليوم حنتْ ظهرها وِتْحسَّرت. وحكتْ حكي بيقطع القلب من جوَّه، والله سمعتها بذاني يمّه وهيَّ بتقول: سبحان مْغيِّر الأحوال، طول عمرها رجلينا بتخبط حافية وبالصرامي ع السجاجيد. طول عمرنا بنمشي فوق السجاجيد، صارت السجاجيد تمشي فوق روسنا. من ساعة ما هاجرنا قلَّت قيمتنا يا ناس، وبطلنا نقدر نرفع راسنا.
*مقطع من سيرتي “طعم الفراق…ثلاثة أجيال فلسطينية في ذاكرة”

ربعي المدهون 
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طبعتان، 2001 و 2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *