ما زلنا نشحذ أقلامنا لنسكن حيفا ونستكين في جوّها الرطب، نحاول روايتها وكتابتها مستعينين بوحي مجبول بأوراق طلسمية خارجة لتوها من معبد المنجمين لتشير لنا بإيحاءات شبه سماوية تحثنا على حسن الحكاية وصدق الرواية لنذكر في سفر النكبة ما استطعنا من شخصيات تخطت يوم النكبة ودخلت في ايام طاب وطال بها المقام في هذه الارض الملعونة من أيام هذه الدولة، التي ما زالت حسب الرواية الاخرى طور التركيب، التطوير، التمحيص والتدقيق في سلوكها.
مهما يكن من أمر فهذه الحيفاء جديرة، لدرجة الاستحقاق، بسبر أغوارها وفك رموز أسرارها من اجل التوصل إلى بعض من حقائقها. فوادي نسناسها هو حقيقة ساطعة ما زالت تلمع في تاريخها الحديث بعدما خسرنا وادي الصليب المنكوب والمهزوم.
وادي النسناس في خمسينيات وستينيات القرن جمع العرب بين أحضانه بأمر من آمر حرص على وحدة عروبته لحاجة ما في نفس يعقوب، هذه الوحدة التي فاقت بتماسكها وحدة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا أنتجت العديد من الحكايات والطرف والمفارقات والأبطال على مختلف أطيانهم وانتماءاتهم ومنهم ذلك المدعو "هيرش".
هيرش هو يهودي من أصل بولوني، حرص على بيع بضاعته القماشية في وادي النسناس. دعته العامة والخاصة "إرش" (في اللهجة الحيفاوية عوضا عن قرش بينما هيرش الإيديشية تعني الأيل أو الغزال). فإرش كان بائعا متجولا يبيع جميع أنواع الملبوسات وخاصة الشينتيانات للمدامات (الحاجات) كقوله "الخاﭽـات" وكذلك السراويل الداخلية للأولاد. فكل أجيال ذلك الزمان ارتدوا هذه الالبسة وكانوا متساوين كأسنان المشط حين ارتدوا السراويل الداخلية "أبودكة" وانطلقوا بها في الحارات.
هذا المشهد كان الاشتراكيّة في أعلى تجلياتها في هذا الحيّ بفضل هذا الإرش دون تدخل الاتحاد السوﭭـياتي وأحزابه. وما يميز إرش هو طوله "المسخوط"، حيث كاد يرتفع عن الارض بشبرين أو ثلاثة والأنكى من ذلك أنه كان يحمل أوزانا يعجز عنها حمالو ساحة الحناطير.
أما وجهه فحدث ولا حرج، ليس له وجه. فجل ما تراه هو نظارته السميكة التي يفوق سمك زجاجها قاع كأس الشراب. طبعا أنفه المعقوف يميز يهوديته ولربما بولونيته. أما الميزة الثانية فكانت أوراق دفتره الصفراء التي كان يدوّن فيها الديون.
كان يلف دفتره بقطعة مطاطية رئيسية سميكة يفتحها عند الحساب. وعند فتحه للدفتر كانت تتجلى قمة مهارة حركة أصابعه المتناسقة مع حركة نظارته السميكة وأرنبة أنفه الراقصة, لدرجة انك لا تستطيع تتبع عملية هذا الفتح الذي يتم عبر تقلب كمية هائلة من القطع المطاطية الأقل سمكا من الرئيسية (المغيطات)، فالعملية تتحول الى فتح وإغلاق وهكذا دواليك.
الميزة الثالثة كانت قلمه الرصاصيّ المصنوع من مادة الكوبيا (قلم الكوبيا). هذا القلم عبارة عن أنبوب خشبي غليظ القياس، يبدو لك قلما رصاصيا عاديا، الا انه لا يكتب دون ان تبله بلسانك.
بالتالي، كان لسان إرش كحلي اللون من شدة استعماله لتدوين الديون، لأن سكان الواد لا يستطيعون الدفع مرة واحدة و"بالكاش ماني"، انما التقسيط الممل والمريح.
ولكثرة التقسيط لم يرتح لسان إرش ولو لمرة واحدة. وهكذا كان لسانه دائم الصبغة، وكان الأطفال يخشونه حين تكلم لأنه كان يمد لسانه إلى الأمام حين ينطق العربيّة المكسّرة فيظهر ذلك اللون الكحلي المخيف.
"إرش لم يرعبنا بقدر ما أرعبنا قرش شدمي"- هكذا قالت جدتي من عائلة القلعاوي وتابعت حديثها عن إرش البولوني لتقول " إرش كان يترحم علينا وعلى نكبتنا بقدر مع نسد له من ديون. لا جلت (نقود بالاديش) لا نكبة".
هذا هو إرش. نتابع ونذكر في الكتاب جاسما، انه كان بطلا شقيا. فجاسم هو من أبطال هذا الحيّ، مجهول الهوية، يعتقد انه اتى من العراق. رجل قوي البنية، باع السكاكر والتمر الهندي نهارا وتاجر بأمور أخرى ليلا. حقا، فقد كان بطلا يدافع عن شرف وادي النسناس بعدما اغتصب ويذود عنه اتقاء لشر هجمات أشقياء اليهود العرب من ابناء المغرب الذين قطنوا وادي الصليب بعد نكبة عربه.
جاسم كان متعصبا لوادي نسناسه بكل ما فيه من مواطنين، شاملا بذلك حتى السكان اليهود الذين أسكنوا في هذه المنطقة طمعا في تهويدها. فكانت العديد من العائلات اليهودية تسكن الى جانب وداخل العائلات العربية مستخدمة مطبخا مشتركا وحمامات ومراحيض مشتركة. وكم كانت الكثافة توّلد الودّ أحيانا وتولد النفور احيانا اخرى.
ومن قصص حسن الجوار انبثقت احاديث ونمائم لا تعد ولا تحصى عن أحمد وبراخا الرومانية وعن سامي وسيمحا البولونية. وفي هذا السياق نذكر طيب الذكر أحمد قوّاص عضو، عصبة التحرر الوطني آنذاك الذي سكن الحي في شارع حداد رقم 6 مع زوجته سميرة القلعاوي وجاورته بإمرة الآمر عائلة يهودية من أصل تشيكيّ تآلفت ابنتها الشقراء مع ابنه الاسمر ونسجت بينهما علاقة صداقة طفولية انتهت بنكبة ذاتية حين اتخذت عائلة قواص قرارا بمغادرة البلاد في بداية الخمسينات لتقطع أواصر القربى بين الطفلين من جهة وبين علاقة الأب بعصبته وحزبه الشيوعي وصديقه الشخصي الكاتب اميل حبيبي.
يعاد انتاج هذه العلاقات المقطوعة بينهما من خلال الوسطاء بين حيفا وعمان، حيث ما زالت عائلة قواص تقطن في عمان بعيدة عن مرتع صباها وذكرياتها في حيفا. أما أحمد فغادر هذه الدنيا ونكبتها بدون ضجيج يذكر. لكنه تمتع بفرصة ثانية قبل الفراق حين زار حيفا وواديه وعصبته وحزبه وأصدقائه من توفيق والإميلين في السبعينات عائدا الى حيفا كعائد غسان كنفاني.
عاد، زار، قابل، ضاف واستضاف لكنه انزعج حينما شعر بأن أبناء شعبه المحليين لا يفهمون ما يقول، فهو يتحدث باللهجة الحيفاوية الأصلية ويسميّ الأشياء حسب زمانها ومكانها الذي تجمد في نيسان 1948.
حين سأل العامة من الشباب كيف الوصول إلى شاطئ "أبو نصور"، قالوا له ومن يكون هذا؟ أجابهم أبو نصور. قالوا : لا نعلم.
حتما انك من رجال فضاء المتشائل. سكت أحمد قواص ولم ينبس ببت شفة. ذهب عند صديق عصبته توفيق طوبي وطرق باب بيته في شارع قيساريا ليقف أمامه منتصبا بجسمه الممتلئ والعريض …. كان العناق والبكاء بعد تبادل الكلمات البسيطة والعميقة "مرحبا يا رفيق توفيق… مرحبا يا رفيق أحمد…".
لم يتنازل أحمد قواص عن عزمه للاستجمام في بحر أبو نصور كعهده في الايام الخوالي فما كان عليه سوى استدعاء أحفاد من عرفهم من أقارب ليدلونه على الطريق.
وللصراحة لم يك بحاجة لهم. فقد ذهب سيرا على الاقدام منطلقا من شارع حداد ليمر من سوق الواد وكأنه يسلم على رفيقه علي الخمرة في مسمكته ومن ثم إلى شارع اللنبي على طوله مرورا بالكولونيالية الألمانية ليلقي التحيّة تيمنا على شاعرنا أبو سلمى وينطلق إلى الموارس ومن بعدها الى البحر..
ذلك البحر الذي كان همزة الوصل لتلك النكبة التي لن ينساها القواص وحيفاه. وصل شاطئ ابو نصور لكنه لم يصل مبتغاه……