د. رفيق حاج
لقد تحوّل مكتب رئيس البلدية في بعضِ البلداتِ العربية الى مركزٍ "رسمي" لتوجهات الجمهور او الى ديوان مختار البلد التابع للعهود المنصرمة. ان توجه المواطن المباشر لرئيس السلطة المحلية يسلط النور على مشاكل بنيوية متأصّلة تعيب على سير العمل البلدي وتثير تساؤلات حول ملاءمة الحكم المحلي للمجتمع العربي في اسرائيل. عندما يشعر المواطن العربي في هذه البلاد ان جوراً ما لحق به, أو انه لم يتلقَّ ما "يستحقه" من خدمات بلدية, فإن اول من يتوجه اليه لحل ضائقته وفضّ كربه ونيل مُراده هو رئيس السلطة المحلية في بلده, الذي عادة يستقبل المكالمات بصدر رحب دون تذمرٍ وعبر هاتفه الخليوي. كيف لا, وهو ممثل الجمهور وقد حصل على هذه المكانة المرموقة بفضل تأييد الناس له. قلّما يضرب الرئيس موعدا محددا مع المواطن ويفضّل ان يكون "مفتوحا" على غرار "صباح يوم السبت" أو "بداية الأسبوع" أو "بعد نهار الخميس" وهذا طبعا يؤدي الى حضور العشرات من المواطنين الى مكتب الرئيس مدعين انهم عينوا "موعدا مُسبقاً" معه وينضم اليهم مواطنون آخرون مرّوا صدفة قرب مبنى البلدية المحاذي لسوق الخضار وتذكروا ان هنالك "أمرا صغيرا" ينبغي انهاؤه بتدخّل الرئيس. لا حاجة لإجراء بحث علمي لتقصي الاسباب التي تدفع المواطنين للسعي لمقابلة الرئيس بشكل شخصي متجاهلين جحافل الموظفين والمساعدين "المتأهبين" للخدمة. السبب الأول, هو تذكير الرئيس بأنه مدين لهم تأييدهم له في الانتخابات السابقة, والسبب الثاني هو تقصير المدة الزمنية المطلوبة لمعالجة المشكلة, فمكالمة واحدة من الرئيس لرئيس قسم الهندسة او مدير شركة الجباية او رئيس قسم الصحة "تنهي الموضوع". لا نستطيع لوم المواطن على توجهه المباشر للرئيس لانه في أغلب بلداننا العربية لا يوجد مركز لشكاوي الجمهور, ولو قام المواطن بالتوجه مباشرة للأقسام فلا يحظى بالمعالجة المرجوة بحجة عدم استيفائه الشروط, او عدم ارفاق كل الوثائق او انعدام الموارد المطلوبة لحلّ مشكلته. للمواطن يوجد ايضا ما يُقال حول مهنية الموظفين ونظام دوامهم في مكان العمل, ومدى تحمّسهم لتقديم الخدمة وخصوصا عندما يكونون معدودين على مؤيدي الرئيس السابق. بحق وبدون حق يدعي المواطن ان الموظفين يتعمّدون وضع العراقيل البيروقراطية أمامه لكونه مناوئا سياسيا لهم او منتميا لطائفة او عائلة معينة. ان هذا الواقع المرير والغريب بعض الشيء يضع اسئلة استفهام كبيره حول إداء سلطاتنا المحلية وحول قدرتها على تقديم الخدمات للمواطن. من المفروض ان يكون هناك فصل تام بين الجهاز المنتخب المتمثل بالرئيس والنواب وأعضاء الائتلاف وبين الجهاز الإداري الذي يرأسه المدير العام. هذا الفصل بين الجهازين هو حاجة مُلحة وشرط أساسي للعمل, وبدونه لا تستطيع السلطة المحلية إداء وظائفها. دور الجهاز المُنتخَب هو نصب السياسات وتحديد الاتجاهات ووضع الاولويات للعمل البلدي ودور الجهاز الإداري هو ترجمة تلك السياسات الى لغة التنفيذ. اغلب سلطاتنا المحلية العربية تفتقر الى مراكز لشكاوي الجمهور ولذا لا يجد المواطن عنوانا واضحا لمعالجة مشاكله فيعرّج على مكتب الرئيس, وإن تواجدت مراكز كهذه في بلداتنا فتراها لا تعمل بانتظام, وان عملت بانتظام فهي غير قادرة على تزويد الحلول وإعطاء الاجابات الشافية للمواطنين اعتبارا ان تلك الحلول تكلف البلدية وتتطلب ميزانيات غير متوفرة لديها, وخاصة في وضع تقبع به اغلبية بلدياتنا العربية في عجز مالي مُزمن وتخضع لإملاءات وشروط المحاسب المرافق. ما لا شك به, المقابلات التي يجريها رؤساؤنا بهذا الكم وبهذا الزخم مع المواطنين تضر بهيبة الموظفين وثقة الناس برؤساء الاقسام لأن فيها تجاهلا لهم واستهتارا بهم, وخاصة عندما يقومون خلال المقابلة باستدعاء رئيس القسم لحل مشكلة ابو فلان. ان زرافات المواطنين التي تتجمع في ديوان الرئيس منتظرة قدوم دورها تذكّرني بالمرضى المحتشدين في عيادة الطبيب الذي يزور القرية مرة في الاسبوع في دول العالم الثالث, او بالدور لتلقي رجلا اصطناعية في افغانستان. تنظرُ الى وجوه الناس المنتظرة فتجدها واجمة وحائرة ومُحرجة من قلة حيلتها, وبنفس الوقت متأهبة للانقضاض على فتحة الباب المعلنة عن خروج الوافِد السابق. في كثير من الأحيان يتحول ملتقى الناطرين في ديوان الرئيس الى "منتدى اجتماعي" تتبادل به التحيات والتبريكات والقبلات الذكورية, وعندما ييأس بعضهم من الانتظار يودّع الحاضرين بحرارة آملاً ان يلقى حظاً أوفر في الزيارة القادمة. من الرؤساء من يضيق ذرعا بعد فترة قصيرة بمثل تلك اللقاءات مع المواطنين الطامحين "بتسيير امورهم" وينقطع عن الوصول الى البلدية الا في حالات الضرورة كزيارة وزير للبلد او حرق قسم الحسابات على ايدي مجهولين, ويعود ذلك الانقطاع لسببين- الاول, عجزه عن تلبية طلبات الناس اللانهائية والمُكلفة والمُحرجة والخارجة عن القانون أحيانا. وثانيا, انعدام اية خطة من طرفه لترشيح نفسه مرة اخرى لمرور عشرين سنة على فترة رئاسته. وهناك من الرؤساء من يقع في حب تلك اللقاءات التي تهبه فرصة لنفش الريش واعتمار قلنسوة "أمير المؤمنين" وتوسيع نفوذه وهنالك من يوكّل نائبه هذه المهمة. في واقع كواقعنا تسود به ثقافة الفقر ويغلب به صراع البقاء يتحول ملتقى الرئيس بالمواطن الى مشهد درامي مقلق ومثير للتساؤلات حول ملاءمة نظام الحكم المحلي بشكله الحالي لمجتمعنا العربي. ان المعرفة الشخصية القائمة بين الرئيس والمواطنين, والقرابة والانتماء لنفس الحزب تعيب على ادارة السلطة المحلية بشكل مهني ومُنصف خصوصا في البلدات الصغيرة. لا مناص من الفصل الكامل بين عمل وصلاحيات الرئيس ونوابه وبين عمل وصلاحيات المدير العام ورؤساء اقسامه. لا مناص من رفع المستوى المهني للعاملين في السلطات المحلية وتنظيم ساعات دوامهم ليصبحوا موضع ثقة لدى المواطن الذي فقد الأمل بقدرتهم على خدمته. ان الحفاظ على علاقة طيبة مع المواطنين والاستعداد لمقابلتهم وسماع شكاويهم ومحاولة مساعدتهم هو أمر ايجابي لكن مكتب الرئيس ليس هو العنوان لذلك, وانما مركز شكاوي الجمهور.