الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى
الرئيس الروحيّ لرعيّة الروم الكاثوليك
(حيفا)
تعتبر كلمة الحب، من أعظم الكلمات التي تسمعها الأذن، ويشعر بها القلب. ويرجع ذلك إلى التركيب النفسانيّ والعاطفيّ الذي خلقه اللّه في الإنسان، فكلّ إنسان بحاجة لأن يكون محبوبًا، وبنفس الصورة هو بحاجة أن يُحِب.
وحينما يشعر الإنسان أنّه محبوب، فإنّه يشعر بالقيمة الذاتيّة، والأهميّة الشخصيّة، والقبول من الآخر، وجميعها قيم داخليّة يحتاج كلّ إنسان أن يشعر بها.
ودائمًا ما يبحث الإنسان عن الحب وسط أهله وأصدقائه وأقاربه وزملائه. ومن المعروف أنّه كلّما حصل الطفل الصغير على مزيد من الحبّ – بطريقة سليمة خالية من التدليل الزائد – داخل نطاق الأسرة، فإنّه يكون أكثر اتّزانًا في حياته. فسيكولوجيّة الإنسان تقول إنّ أكثر الناس بحثًا عن الحب هم مَن لم يحصلوا عليه. وقد يتسبّب هذا في الكثير من المشاكل النفسانيّة والعاطفيّة، الّتي تؤدي إلى القلق والتوتّر، والسعي الخاطئ نحو ما يظنّه الشخص حبًّا، ومحاولة جذب الانتباه التي تصل، في بعض الحالات الخطيرة، إلى محاولة الانتحار.
ولذا فإنّه من المهم جدًا أن يشعر الشاب داخل أسرته وكنيسته بالحبّ من الجميع، وأن لا يكون هذا الحبّ مكافأة على السلوك الطيّب للشاب، فالشاب يحتاج أن يكون محبوبًا في أوقات الضعف والسقوط أكثر من أوقات القوة والانتصار. ومن الجميل أن تشعر أنّه يوجد من يحبك في كلّ ظروف حياتك ومهما كانت حالتك الروحيّة أو النفسانيّة أو الاقتصاديّة، سواء كنت قائمًا أو ساقطًا، فالربّ يحبك ويريد أن يشددك ويقيمك. يريد أن يقدّم لك جميع حاجاتك الجسديّة والنفسانيّة والفكريّة والروحيّة، وفي محبّته لك لن تشعر بأنك محرومٌ من الحب.
لقد أعطانا السيّد المسيح هذه المحبة كما يقول الرسول بولس في رسالته إلى رومية: "أجل، إنّ المسيح، ونحن بعدُ ضعفاء، قد مات، في الأوان المعيَّن، عن الكافرين. ولا يكاد أحدٌ يموت عن بارّ؛ وقد يُقدِم أحدٌ على الموت عن صالح. وأمّا اللّه فقد برهن على محبَّته لنا بأنّ المسيح قد مات عنّا ونحن بعدُ خطأة.." (رومية 6:5-10).
ويقول القدّيس يوحنا: "أجل، لقد أحبَّ اللّه العالم حتّى إنّه بذل ابنه، وحيدَه، لكي لا يهلك كلُّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة" (يو 16:3)، "ليس لأحدٍ حبٌّ أعظمُ من أن يبذل نفسه عن أحبَّائه" (يو 13:15).
ثق أيّها الشاب أنّ اللّه يخاطبك في كلّ لحظة، كما خاطب دانيال النبي في القديم قائلاً: "لأنّك محبوبٌ من اللّه" (دانيال 23:9).
والآن وقد علمت أنّك محبوبٌ جدًا من اللّه فتستطيع أن تقدّم بعضًا من هذا الحب للمحيطين بك؛ كما يخبرنا القدّيس يوحنا: "أيُّها الأحبَّاء، لنُحِبَّ بعضُنا بعضًا، فإنّ المحبَّة من اللّه، وكلُّ مَن يُحِبُّ فهو مولودٌ من اللّه، ويعرفُ الله" (1 يو 7:4).
وهذه هي حاجتك الثانية في هذا الموضوع، أن تحب: فحينما تحبّ تشعر أكثر بأنّك شخصًا ناضجًا قادرًا على العطاء. ولكن، ولكي يكون كلامنا محدَّدًا وواضحًا ينبغي أن نعلم ما هو الحبّ؟
توجد باللّغة اليونانية ثلاث كلمات مختلفة تدلّ على كلمة الحبّ التي نقوم باستعمالها، وتمثّل ثلاث مستويات:
1. حب على المستوى الجسديّ:
وهو ما يعرف بالحب الاستهلاكيّ، أي محاولة إشباع الجسد على حساب الآخر، وهو ما يُعرف بالشهوة الجسديّة الشديدة، ويُسمّى باليونانيّة «إيروس»، ومنه أُخذت الكلمة الإنچليزيّة Erotic والّتي تعني شخصًا شهوانيًا. ولم ترد هذه الكلمة مطلقًا في العهد الجديد، رغم شيوع استخدامها بين اليونان في وقت كتابته. فلم يهتم الكتاب بها، ولم يحسب لها حسابًا، فهي أبعد ما تكون عن الحبّ الذي يُطالبنا اللّه به، أو الحبّ الذي نرضى به لأنفسنا أو لمحبوبنا.
2. حبّ على مستوى المشاعر والأحاسيس:
ويشمل أحاسيس الصداقة النبيلة، والعطف والترحيب المتبادل، ويسمّى باليونانية «فيليو»، وهو أرقى كثيرًا من النوع السابق.
3. حبّ الأغابي:
وهو أعمق أنواع الحبّ وأعلاها وأكملها، ويرتبط بالإرادة والاتجاه والثبات. فهو لا يتغيَّر بتغيُّر الظروف المحيطة، هو حبّ لا ينتظر المقابل، هو حبّ اللّه لكنيسته، حبّ اللّه لك ولكلّ واحد، هو الحبّ المطلوب بين الزوج وزوجته، بين الآباء وأولادهم، بيننا وبين إلهنا. الحب الباذل هو أن أعطي نفسي بالكلية للآخر دون انتظار المقابل عن هذا الحب؛ الحبّ الحقيقيّ هو ما تحدّث الرسول بولس عنه في رسالة كورنثوس: "المحبَّة تتأنَّى وتَرفُق؛ المحبَّة لا تَحسُد؛ المحبَّة لا تتباهى، ولا تنتفخ؛ لا تأتي قَباحةً، ولا تطلُبُ ما لنفسها؛ لا تحتدُّ، ولا تظنُّ السُّوء؛ لا تفرحُ بالظُّلم بل تفرح بالحقّ؛ تتغاضى عن كلّ شيء، وتصدِّق كلَّ شيء، وترجو كلَّ شيءٍ، وتصبر على كلِّ شيء. المحبَّة لا تسقط أبدًا. أمّا النبوَّات فستُبطَل؛ والألسنةُ تزول؛ والعلم يضمحلّ(1 كور 4:13-8).
والآن هل اكتشفت بنفسك أنّ الحبّ الذي نراه على شاشات التلفاز أو السينما، في أغلب الأحوال، ليس حبًا حقيقيًا، وأنّ كلّ حبّ لا يهتم بالآخر ولا يهدف إلى مصلحة الآخر، ولا يراعي شعور الآخر، أو سمعة الآخر، أو نجاح الآخر، هو في الحقيقة ليس حبًا.
ونعود لنجيب عن السؤال: كيف أُقدِّم الحبَّ للآخرين؟
وللإجابة على هذا السؤال أقول لك إنّه ينبغي أن تكون ڤالانتينو Valentine (وهو الاسم الذي يطلقه البعض دون وعي على المحبّين). ولكن، هل تعرف من هو ڤالانتينو الّذي تسمع عنه كثيرًا، ويتردد اسمه مرتبطًا بالحب وعيد الحب؟
ڤالانتينو هو الأسقف ڤالانتين (ويوجد قديس آخر من الأتقياء يدعى بنفس الاسم وينسب إليه البعض العيد أيضًا) من أساقفة روما، وقد استشهد من أجل الإيمان بالمسيح في عهد الإمبراطور كلوديوس الثاني، يوم 14 شباط/فبراير سنة 270 ميلاديّة. وقد اشتهر هذا الأسقف بمحبّته لجميع الناس، كما اشتهر بما قدّمه من أعمال الشفقة والرحمة، حتّى أصبح رمزًا نابضًا للحبّ، في حبّه لإلهه الّذي استشهد من أجل الإيمان به، وفي حبّه لشعبه وأخوته بما قدّم من أجلهم. وحينما أراد چيلاسيس Gelasius بابا روما سنة 496م أن يصنع عيدًا للحبّ، وجد أنّ هذا الأسقف يمثّل الحبّ المسيحيّ الصادق، فحدّد يوم استشهاده ليكون عيدًا للحبّ. وما زال معمولاً بهذا العيد حتّى الآن، ولكنه تحوّل كثيرًا عن الهدف المرجوّ منه، وأصبح اسم ڤالانتينو – للأسف – مرتبطًا كثيرًا بالمعنى الاستهلاكيّ للحب.
والآن هل نتعرف معًا على بعض المجالات التي نستطيع من خلالها أن نقدّم الحبّ للآخرين، متمثّلين بذلك الشهيد الذي شهد بحياته من أجل محبّته في الملك المسيح:
– كُن ڤالانتين، وقَدِّم حبَّك في خدمة إلهك الذي مات من أجلك على عود الصليب وقام من أجلك. وفي هذا لا تحسب حساب للنفقة، ولا تنتظر مقابل لحبّك. ولكن لا تخف فهو يعطيك مائة ضعف في هذا الدهر، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية (مرقس30:10).
– كُن ڤالانتين، وقَدِّم حبَّك لكنيستك، بكل عقائدها وطقوسها وخدماتها وآبائها وشعبها. إحرص على خدمتها دون انتظار مقابل لهذا الحبّ.
– كُن ڤالانتين، وقَدِّم حبَّك لأسرتك، الكبير والصغير، قدّم الحبّ لكلّ من هو بحاجة إليه. إحرص على عمل كلّ ما يفرح قلوبهم دون انتظار مقابل لهذا الحبّ.
– كُن ڤالانتين، وقَدِّم حبَّك لمجتمعك الذي تعيش فيه. إحرص على دراستك، تَفَوَّق. كن عضوًا صالحًا في مجتمعك، قدّم الحبّ للجميع، حتّى الذين يسيئون إليك، ولا تنتظر شيئًا مقابل هذا الحبّ.
– كُن ڤالانتين، وقَدّم حبَّك لكل محتاج للحبّ، حبًّا نقيًّا صادقًا يصل بك ومن تحب إلى قلب اللّه الذي أحبّ الجميع، قدّم حبّك في خدمة المحتاجين، المعوزين، المرضى. قَدّم حبَّك للحزانى والمتألمّين والمتضايقين.. ولا تنتظر شيئًا مقابل هذا الحب.
ويبقى العديد من المجالات التي يستطيع الإنسان أن يقدّم الحبّ من خلالها؛ ولعلّ أحد أهمّ هذه المجالات هو تقديم الحبّ للزوجة أو الزوج من خلال سرّ الزواج المسيحيّ المقدّس، وذلك في الوقت المناسب الذي يحدّده اللّه لك، فلا تنشغل بذلك كثيرًا الآن، واعلم أنّ لكلّ شيء تحت السماء وقت، فاهتم اليوم بدراستك، وحقّق أهدافك، وعِش حياة الحبّ والعطاء من الآن، لتتمكّن في المستقبل من إشباع بيتك وأولادك بهذا الحب المستمدّ من محبّة اللّه لك.