حيفا “العتيقة” أو “المحطة”
د. كميل ساري (مدير منطقة الشمال سلطة الآثار)
يتواجد حي “المحطة” او “العتيقة” ما بين شارع يافا وميناء حيفا حيث تصل في الشرق الى حي الألمانية (جادة بن غوريون اليوم). في الماضي، كانت جزأ من حيفا المدينة حيث اعتبرها الأثريون والمؤرخون الموقع فيه تأسست مدينة حيفا في العصور القديمة ومن هنا، إسمها “العتيقة”. أماإسمها المحطة فهو بسبب محطة القطار التي كانت في المكان خلال الفترة العثمانية.
كما يبدو فإن بداية الإستيطان في حيفا القديم خلال الفترة الرومانية، عندما أسس القائد الروماني “أسباسيانوس” (عام 9 ق.م. – 79 ميلادي) في الموقع مقرا للجيش الروماني على الطريق الرئيس المار بين قيسارية وعكا، منه تفرعت طريق ثانوية (بالمنطقة القريبة في أيامنا من كفرتا) وصلت إلى مجدو. استمر الإستيطان في الموقع خلال الفترة البيزنطية والإسلامية (القرن الثامن ميلادي) وحتى الفترة الصليبية.
خلال الفترة الصليبية، هجر الصليبيون الموقع خاصة بعد بناء مدينة عكا وتطويرها، ليبقى في العتيقة قرية صيادين صغيرة. خلال القرن الثامن – عشر، عندما قرر الظاهر عمر ببناء حيفا الحديثة عام 1761، في المنطقة المتوادة 3 كم الى الشرق من المحطة، قام بهدم الموقع. لا نعلم الأسباب الدقيقة لهدم العتيقة لربما بسبب صعوبة حراسة المنطقة الى جانب حيفا الحديثة، كما أن ظاهر العمر لم يعتقد ان العتيقة ستدير نفعا لمملكته.
خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت عائلات عربية بالعودة الى المنطقة وبناية الحي الحالي من بينها عائلات محلية او عائلات هاجرة الى المنطقة من لبنان وسوريا على سبيل المثال عائلة بوطاجي. بعد قيام الدولة عام 1948 وخاصة في سنوات الخمسينات، بداء مشروع هدم منازل الحي بحجة توسيع الميناء وتطوير المنطقة. رويدا رويدا تم إخلاء غالبية السكان وبلا من مئات العائلات تتواجد اليوم في المحطة قرابة 25 عائلة فقط.
الأبحاث الأثرية
تشير نتائج الأبحاث الأثرية الى حدود حيفا العتيقة التي وصلت الى الجنوب من مشفى رمباب أي في حي بات غاليم اليوم. خلال الحفريات الأثرية التي أجريت في ساحة مستشفى رمبام تم العثور على مكتشفات من الفترات البيزنطية والإسلامية عنها سأشرح بتوسع في تقرير قادم عن حي بات غاليم.
أما ضمن الحدود الحالية للحي العتيقة او المحطة، فقد أجريت الأبحاث الأولى خلال فترة الإنتداب حيث قام المهندس الألماني شومخر بتوثيق كهف إستعمل لدفن الموتى خلال الفترة البيزنطية. لاحقا عام 1991 قامت سلطة الآثار بإجراء الحفريات الأثرية بأعقاب توسيع السكة الحديدية حيت تم العثور على كهوف مشابهة، مكونة من غرف نحتت في جدرانها الأكواخ لوضع النواويس. يجدر الذكر أن عام 1972 تم العثور صدفة على كنز من العملات النقدية المصنوعة من الذهب والتي يعود تاريخها الى فترة القيصر “فوكاس” (602 – 610 ميلادي).
مواقع مركزية في الحي
أبرز ما يمكن مشاهدته في حي العتيقة اليوم خلال جولة في الموقع، هو الأراضي الخالية من المبان التي تشير الى مدى هدم المنازل على مر السنين. من هنا فإن قصة الحي تكمن بما قد هدم ومحى معالم تراث التي كانت تحمل معها قصة حياة وعلاقات إجتماعية لجميع من سكنوا الحي على مر العصور. خلال الحديث مع سكان الحي، يتضح ان المئات من العائلات سكنت حيفا العتيقة، الى حد ان المنازل كانت مبنية ملاصقة الواحدة للأخرى. من هنا لم تكن في الحي شوارع كبيرة بل اتصفت بأزقة صغيرة حيث كان يمكن للسكان عبور الحي من طرف لآخر على أسطحة المنازل (لقربها الى بعض).
اما أبرز المواقع التي لا زالت موجودة ويمكن مشاهدتها، يمكننا أن نذكر:


مقبرة طائفة التمبلار: التي دفن فيها آنذاك، أشخاص ذو صلة بحي الألمانية مثل “جوتليب شومخر” ووالده يعقوب شومخر والبعض من مؤسسي حي الألمانية. إلا ان المقبرة تشمل أيضا البعض ممن ليس لهم صلة بحي الألمانية وعلى الرغم من ذلك دفنو في المقبرة على سبيل المثال: قبر السيدة أليس أولفينت” التي كانت زوجة لورنس أولفينت (كاتب وسياسي بريطاني زار البلاد خلال الفترة العثمانية عام 1882 وسكن في دالية الكرمل. كان له منزلا آخر في حي الألمانية).
مقبرة الجيش البريطاني: تتواجد على الحد الشمالي من الحي، دفن فيها جنود البريطانيون الذي ماتو خلال الحرب العالمية الأولى. تم ترتيب القبور في المقبرة وفقا لديانة الجنود الذين دفنوا فيها.
مقبرة الطائفة الإنجيلية: في المقبرة مدافن مواطنون بريطانيون من بينهم شخصيات بارزة مثل: الدكتور إبراهيم زروف طبيب عربي الذي فتح عيادة للطب المجاني للسكان في حيفا خلال سنوات العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين. وجورج سايكس: كان مدير حركة القطارات في البلاد خلال فترة الإنتداب
المقبرة اليهودية القديمة: المتواجدة في أقصى الحي في شارع يافا وكانت المقبرة للطائفة اليهودية في فلسطين بين الأعوام 1860 – 1935 وتم ترميمها عام 2010.

يعتبر حي العتيقة الموقع فيه بدأت مدينة حيفا وله تاريخ وجذور تعود الى آلاف السنين. وعل الرغم من ذلك، فالحي يعاني من الهدم المستمر وتهجير سكانه بهدف توسيع الميناء أو اعمال تطوير حديثة أخرى، مما أدى الى تهجير سكان الحي ويقطنه اليوم قرابة 20 عائلة فقط. كما يبدو فإن تاريخ الحي للأسف الشديد يكمن اليوم فيما لا نراه ومدفونا تحت الأرض أكثر مما هو بارز عليها.