المهنية العالية هي احدى الوسائل التي تستعملها الأقليات المضطهدة لتحسين ظروفها وشق طريقها. لهذا السبب نشهد استخدام عشرات الآلاف من الشبان والفتيات العرب في صناعات "الهايتك" الاسرائيلية، ووفود آلاف المواطنين اليهود يوميا للبلدان العربية لإقتناء السلع والخدمات.
هنالك بعض الوسائل التي اثبتت نجاعتها في مجابهة السياسات العنصرية التي تمارسها الحكومات والدوائر الرسمية ضد الأقليات، والمهننة هي واحدة منها. خشية ان يكون مصطلح "المهننة" غير مفهوم لبعضكم، وجدت من اللائق ان اسكب بعض الضوء عليه، لكن ليس قبل طلب المعذرة من ذوي المعرفة.
لقد بحثت عن تفسير لكلمة "المهننة" في القواميس والمعاجم اللغوية، ورجعت بخفي حنين، وحتى عندما التجأت الى "غوغل" ذي قدرات البحث الفائقة لم اجد اجابة شافية، وبما اني ادرك تماما ان هنالك مصطلحا من هذا القبيل لم أجد مفرا من ان اقوم بتفسيره بنفسي. مصطلح "المهننة" مشتق من كلمة "المهنة" والمقصود به هو اتقان المهنة وممارستها تباعا للاصول والقواعد المهنية والالمام بكل صغيرة وكبيرة بها.
المهننة، والتجربة المهنية المشتقة منها، تُحسّنان فرصنا في القبول للعمل كأجيرين في القطاع العام او الخاص، وتُعظّم من امكانية التوجه الينا لشراء الخدمات او السلع المختلفة كمزوّدين مستقلين. ان "الفلسقة" الكامنة وراء هذا الطعن هو ان متخذي القرار يبحثون دائما عن المقابل الأكبر للأموال التي يدفعونها، ولن يقوموا ابدا بالعمل ضد مصلحتهم وشراء خدمات اقل جودة او استخدام عامل اقل مستوى لكونه يتبع لعرق او شعب او دين آخر.
لهذا السبب نشهد استخدام عشرات الآلاف من الشبان والفتيات العرب في صناعات "الهايتك" الاسرائيلية، ووفود آلاف المواطنين اليهود يوميا للبلدان العربية لإقتناء السلع والخدمات. على ما يبدو أن العامل الإقتصادي هو "سيد الموقف" وهو قادر على الغاء اية اعتبارات غير موضوعية.
كثيرا ما نسمع من تاجر سيارات او ميكانيكي او دكتور اسنان يقول ان نصف زبائنه من المواطنين اليهود. أظن ان "محبة العرب" ليست السبب وراء اختيار الزبون اليهودي للمزوّد العربي وانما الخدمة الممتازة والمقابل الافضل الذي يحصل عليه. اذا كانت لديكم موافقة او شبه موافقة على ما ذُكر اعلاه فلماذا لا نسعى الى رفع مستوانا المهني وتعزيز كفاءاتنا وقدراتنا لنحظى بفرصة أكبر لإختيار الزبائن والمشغلين لنا؟
ان اول خطوة في هذا المجال هو اختيار المهنة، فعلينا اختيار مهنة تحوي اصولا وقواعد وخبرات خاصة لا يستطيع نيلها كل "عابر سبيل" او كل من يلتحق باستكمال لا تتعدى مدته الثلاثة أشهر. عادة تَتبعُ تلك المهن للمجالات التقنية كالهندسة والبرمجة والميكانيكيات وتقنييات الحاسوب والكهرباء والسيارات والخراطة والتكييف.
علينا ايضا اختيار مكان العمل الذي يتيح لنا تطوير كفاءاتنا المهنية وألا تغرينا وظائف سهلة او مرتفعة المعاش خالية من امكانية التطور المهني وتراكم المعرفة. على سبيل المثال هنالك الكثير من المهندسين العرب الذين يتفوقون في دراستهم ويختارون مهنة التعليم بدلا من العمل في مجالات احتصاصاتهم التي تتطلب الانخراط في الصناعة والبناء والزراعة وغيرها من المجالات.
لست ادري ما السبب وراء نفور بعضنا من الالتحاق في المجالات التقنية مع ان فرص العمل بها اكبر وهي توفر العيش الكريم لأغلب من يمارسها، وترانا نُفضّل تعلم موضوع اللغة العبرية والمدنيات والتاريخ والتربية (مع احترامي لكل المواضيع!) على هندسي الكهرباء او تقني المكيفات او السيارات ونفضل ان نعمل كموظفين في البنك او عيادة صندوق المرضى او البريد او الشركات الخليوية من ان نعمل كتقنيي أسنان او تقنيي طباعة او تقنيي شبكات.
وترانا ايضا نلتجئ الى العمل في مجالات لا تتطلب أي خبرة مهنية سابقة كقطف الحمضيات واعمال التنظيف وبعض فروع البناء والزراعة والصناعة الخفيفة والعمل في الحراسة والمطاعم ومحطات الوقود وغيرها، وهذا لا يصب في مصلحتنا ويضعّف امكانية تعلّق المشغّل او الزبون بنا وبخدماتنا.
طبعا هنالك العديد من المجالات التي تتيح اكتساب درجة عالية من المهنية والتي لا تخص الامور التكنولوجية التي نستطيع الالتحاق بها كتدقيق الحسابات والعمل في سوق المال والاستشارة التنظيمية والتخطيط الاقتصادي والتصميم والديكور والطب والتمريض والمحاماة وغيرها وعلينا تفضيلها على المواضيع النظرية عند التحاقنا في الجامعات والمعاهد العليا اذا اردنا تعظيم فرصنا بايجاد مكان العمل المربح والمستديم.
من المفروض من كل مواطن عربي في هذه الديار ان يعمل جاهدا لتوسيع مداركه ورفع مستواه المهني وألا يكتفي بما تعلمه في الجامعة او ما ورث من معرفة من ابيه او أقرانه وان يلتحق بالاستكمالات المهنية وان يتحتلن بكل ما هو جديد ومُستحدث في مجال عمله، حتى لو كان ذلك مقرونا بصرف الاموال او بذل الجهود او اغلاق المصلحة لعدة ايام، لأن في نهاية الأمر هذه الاستكمالات تصبّ في مصلحته وتضمن له استمرارية في مكان العمل. طبعا المهنية العالية لن تجدي نفعا اذا لم تكن مقرونة بالجدية والمواظبة واحترام المهنة التي نمارسها.
على سبيل المثال, أيعقل ان نتردد على تلقي خدمات من ميكانيكي سيارات لا يقف بالتزاماته الزمنية او المالية تجاهنا مهما عظمت كفاءاته ومهاراته؟! او نقوم باستخدام مُبرمج فائق الخبرة والقدرات لكنه ينقطع عن العمل كل ثلاثاء وخميس؟!
من الاقليات التي نجحت في شق طريقها واثبات وجودها اعتمادا على المهنية العالية هم اليهود في امريكا الذين يعملون كاطباء ومستشارين ومحامين واعلاميين وخبراء اقتصاديين ونادرا ما تصادف يهوديا يعمل في مجال "الاعمال السوداء" التي لا تتطلب درجة عالية من المهنية. وتجدهم في افريقيا يعملون كخبراء زراعيين ومستشارين لحكومات في مجال الصحة وصناعة والماس والبتروكيماويات والسلاح وغيرها.
على مدارسنا وسلطاتنا المحلية ومدرائنا ومفتشينا وممثلينا في البرلمان والاوصياء علينا ان يسعوا الى رفع مستوى مهنيتنا. للمهننه دور في رفع شأننا وضمان عيشنا ولها اسقاطات ايجابية موثوقة على المجتمع وعلى سلوكيات الأفراد، لذا علينا الاهتمام بها والترويج لها. يا عرب تمهننوا!