مركبة السلطات المحلية عالقة ولن تقوم لها قائمة في العقود القادمة. من اين ستأتي نصرتنا؟ وكيف سيتطوّر بَلَدُنا؟ ان إطاراً بلديا شاملا على غِرار "مجلس الحكماء" الذي انبثق من الثورة المصرية يضم مهنيين وأكاديميين ومفكرين وناشطين اجتماعيين ومواطنين غيورين على مصلحة بلدهم يقوم بجمع "ضرائب اهلية" وصرفها على مشاريع بلدية حيوية هو الحل!
هنالك اعتقاد سائد لدى الكثير منا أن مشكلتنا الأساسية كعرب في هذه الديارهو انعدام قيادة حقيقية ومسؤولة تحمل رؤى مبلورة وتعمل بمهنية وموضوعية وتتفانى بإخلاصها لقضايانا. ان القاءنا التهم على قادتنا يبرّئ ساحتنا, ويجعلنا ننام الليل براحة واطمئنان تماما كما ينام "المحقق البوليسي" آخر الفيلم السينمائي وعلى ثغره ابتسامة حالمة بعد ان نجح في حلّ طلاسم الجريمة والقى القبض على المتهم. طبعا, لا يمكن الانكار ان للقادة يوجد دور هام في اخراجنا من ازماتنا لكنه دور محدود جدا نظرا لكثرة العوائق البنيوية المتعلقة بالمجتمع العربي وبالانسان العربي التي لا علاقة للقادة بها.
المشكلة حسب رايي كامنة بالفرد وبأطر العمل وليس بالقادة, ولذا مطلوب منا اعادة النظر في مسارات العمل والاستثمار مجددا في بناء الانسان العربي الذي بدأ يفقد الثقة بنفسه وبقدرة قادته المحليين على احقاق التغيير المنشود, متكيّفاً للمناخ الجديد بكل آفاته كالعنف والتعدي على الحيّز العام والمساس بجودة البيئة واستتباب الفوضى العارمة وتدني الانجازات التربوية وغيرها, وقد وصل الى قناعة بأن حل هذه المشاكل العويصة لن يتم "في عهده" وتجده في كثير من الأحيان محبطا يائسا وفي احسن الاحوال قانعا ومُكتفياً بما وصل اليه من نجاحات شخصية.
على ما يبدو, ان مركبة السلطات المحلية عالقة ولن تقوم لها قائمة في العقود القادمة. الديون المتراكمة على السلطات المحلية العربية للبنوك وضريبة الدخل وسلطة التأمين القومي وشركة الأوتوماتسيا وشركة مكوروت وشركة الكهرباء ومقاولي جمع النفايات تفوق كل تصوّر, واغلبية المواطنين يتملّصون من دفع الضريبة البلدية لأسباب متنوعة. باختصار, الصندوق المالي للسلطة المحلية خاوٍ , وبشقِّ الأنفس تُدفع المعاشات للموظفين. العجز المالي للسلطات المحليّة العربية ادّى الى تعيين محاسبين مرافقين في أغلب السلطات العربية مما ادى الى شلّ عملها وتكبيل ايدي منتخبيها وموظفيها.
قولوا لي بربكم من اين ستأتي نصرتنا؟ وكيف سيتطوّر بلدنا؟ ومن سيهتم بتطوير مرافقنا التربوية والحفاظ على بيئتنا ومن أين ستاتي المصادر المالية لذلك؟ هل ما زال يخطر ببالكم ان السلطة المحلية هي نافذة الأمل للخروج من هذا الجمود؟ على مرار السنين جرّبنا عدة رؤساء من مختلف الانتماءات السياسية, فلم نجد فرقاً ملحوظا بينهم على مستوى العمل البلدي. لقد صادفنا رؤساء من مختلف الثقافات والتجارب الحياتيه التابعين لمختلف الشرائح الاجتماعيه والمهنية – فهنالك المقاول ورجل الأعمال والمحامي والمهندس ورجل الدين والشخصيّة الشعبيّه وابن العائلة وابن الطائفه وممثل الحزب ورئيس الجمعيه وغيرهم وغيرهم, ولم نجد بينهم من تألّق في عمله وقاد مجتمعه من الظلمات الى النور, مما يدعونا الى الاستنتاج بأن فرص فشل او نجاح رئيس السلطة المحلية العربية تكاد ان تكون غير مرتبطه بمؤهلاته وانتماءاته وانما بواقع صعب وقاسٍ نعيشه كاقلية عربية في هذه البلاد, وتعليقنا الآمال على "اطاحة النطام" في الدورة الانتخابية القادمة اشبه بحالة الغارق الذي يبحث عن القشة.
من يدرس موضوع "الادارة الجماهيرية" في الجامعة في سنته الاولى يتعلم انه عندما تفشل السلطة الحاكمة في تقديم الخدمات المتوخاة منها يقوم الجمهور بايجاد أُطر بديلة لها لأن لا غنى له عنها. اقامة اطار شعبي ينطوي تحت راية جمعية اهلية مسجّلة تضم مهنيين وأكاديميين وخبراء ومفكرين ورجال اعلام ونشطاء اجتماعيين ومواطنين غيورين على مصلحة بلدهم على غرار "مجلس الحكماء" الذي انبثق عن الثورة المصرية, هذا ما ينبغي ان نفعله لبلدنا لانتشاله من محنته. هذه المرة اطار من نوع خاص يضم "فريق انقاذ" وقادة متحمسين لبلدهم يفتح ابوابه لكل مواطن يوقّع على الدستور الخاص به ويدفع "رسوم انتساب" شهرية متساوية لكل مواطن تكون بمثابة ضريبة دخل "بلدية" أو "أهلية" او "وطنية", التي يُصرف ريعها على تنفيذ برنامج عمل يُعنى بتطوير البلد ويسدّ الثغرات في الخدمات البلدية بالاضافة الى المشاريع الحيوية الأخرى.
وهنا اتوقّع ان أتهم بالسذاجة او بالتفاؤل المُفرط من "الجالسين على الجدار" الذين لا يفوتون فرصة للسخرية من كل مبادرة وكل حراك جماهيري وأن يسألني أحدهم كيف نضمن قيام الناس بدفع هذه "الضريبة" ولو كان "بهم خير" لسدوا ديونهم لضريبة الارنونا. وهنا اريد ان اعرض نتائج البحوثات التي قمت بها انا شخصيا في هذا الصدد حيث وجدت علاقة موثوقة بين الاستجابة لدفع الضريبة وبين ثقة المواطن بالسلطة بأنها تصرف ريع الضرائب على خدمات ومشاريع محسوسة وثقة المواطن انه يتلقى مقابلا مُنصفا لما يدفعه من ضرائب, وهذا ليس مستحيلا لأنه من المتوقع أن اطارا من هذا القبيل ان يحظى بثقة المنتسبين اليه اكثر بكثير من ثقة المواطنين بالسلطة المحلية. بالامكان ايضا اخضاع اطار كهذا الى لجنة رقابة مؤلفة من قضاة او رجال قانون او مدققي حسابات لضمان نزاهة العمل.
ان الجانب المالي الذي يخص مدخولات الاطار هي حجر الاساس لنجاحه وبدونه يتحوّل الاطار الى "طاحونة كلام" ولذا ينبغي ايجاد السبل الانجع لتنفيذ عملية جباية الرسوم عن طريق "الأوامر البنكية الثابته" او الاقتصاص المسبق من المعاش بمساعدة المُشغّل او اية طريقة اخرى "يبتكرها" الاطار. لو قام بالانخراط في مشروع كهذا خمسمائة شخص في بلد يعدّ عشرة آلاف نسمة, أي %5 من مجموع السكان, وبدفع مائتي شاقل شهريا كحدّ أدنى لوَصَلَ الريع الشهري للمشروع الى مائة الف شاقل شهريا والريع السنوي لـ 1.2 مليون شيكل سنويا. تخيّلوا ما الذي يمكن انجازه استنادا على هذا المبلغ "المتواضع" من خدمات ومشاريع خيرية وحيوية لتطوير البلد وسدّ الثغرات. ولو قام مثل هذا الاطار بخوض مشاريع استثمارية تُدرّ المدخولات فإن نجاحها سيكون شبه مؤكد لوجود "قاعدة زبائن" عريضة تعتمد على المنتسبين الى الاطار. من المفروض ان يقوم اطار من هذا القبيل بتعزيز الانتماء للبلد وتنشيط الحركة الثقافية وان يتمتع بحسٍ خاص تجاه الشرائح المستضعفة والمحتاجة, وان يعمل ان تكون له نشرة خاصة او اذاعة محلية وان يتبنى جوقة موسيقية او فرقة رياضيه ويوصلها الى مراتب عليا تمثله في الداخل والخارج.
يا عرب! دعونا نأخذ مصيرنا بأيدينا والا ننتظر رأفة الاقدار بنا وشفقة الحكومة علينا. دعونا نبني مستقبلنا بالاعتماد على مصادرنا وهممنا وحبنا لبلدنا ولوطننا. لندع السلطة المحلية وشأنها ولنتضرّع الى المولى ان تنجح بدفع المعاشات لموظفيها, اما نحن فلا وقت لنا لنضيعه على الانتخابات والترشيحات وتجنيد العائلة والطائفة وعقد الصفقات المسبقة, فلنا بلد نريد ان نطوره وعيش كريم نصبو اليه, وعلينا ان نبدأ اليوم.. اليوم قبل الغد.