شاهين نصّار
كيف تحوّل الفيلسوف الكبير التشيكي فرانس كيفكا، الى كاتب مسرحي لا أعرف! ولكن لا شك أن القصة التي كتبها "في مستوطنة العقاب" باتت إحدى روائع المسرح العالمي….
كان لا بد لي أن أدخل الفلسفة في مطلع هذه المقالة، لأنني شخص درس الفلسفة في جامعة حيفا، وعاشق ومحب للفلسفة العالمية والعربية أيضا… ففي مستوطنة العقاب تغلب الفلسفة على أي شيء آخر!!
ما هو العقاب؟ هل يحق العقاب لمجرد العقاب؟ هل طاعة الأسياد هي الأهم؟ ما هو الجهاز؟ كيف يعمل الجهاز؟ ما هو هدف هذا الجهاز؟ ما هو الحق وما هو الباطل؟ من هو القاضي؟ هل يحق الحكم على شخص لمجرد الهوس؟
كل هذه أسئلة تخالجك وأنت تشاهد هذه المسرحية… عميقة جدا، الأجوبة كذلك الحال!
"هذه مسرحية من العيار الثقيل" قال لي أحد الممثلين قبل عرض المسرحية ببضع ساعات! وفعلا هي من العيار الثقيل، ولكن لا بد من أن تخالج المجتمع عيارات ثقيلة الى جانب العيارات الخفيفة! فلا يعقل أن يبقى مسرحنا العربي الفلسطيني معتمدا فقط على الكوميديا والضحك، ولا بد من طرح الأسئلة الصعبة!
في مسيرة هذه المسرحية، يطغى الطابع الفلسفي على طابعها المسرحي، ويا أهلا ومرحبا بمسرحيات من هذه النوع، لا بد لنا أن نفكّر أيضا عندما نستمتع بمشاهدة مسرحية كهذه. فهي طرح واقعا حياتيا معاصرا رغم أنها كتبت قبل قرابة المئة عام، اعتبر كافكا العالم غامضاً وسخيفاً. "الناس قساة مزيفون، وفي الوقت ذاته هم ضحية كل أنواع الشر والابتذال". كما كتب، وأعتقد أنه يلخص المسرحية بهذه الجملة.
فالمسرحية تأخذك في عالم يستشري فيه الظلم، في مستوطنة العقاب، كل من لا يرد على الحاكم يجد نفسه محكوما بالإعدام في نهاية المطاف، والقاضي والداني هو ذلك الضابط المسؤول عن مستوطنة العقاب.
ويقوم طاهر نجيب بدور المحكوم عليه، ورغم قلة كلامه في المسرحية، الا أن دوره مؤثر جدا، فالتعابير الوجهية والحركات لها أهمية كبرى في هذه المسرحية، "راح آكلك حي"، هي الجملة الوحيدة التي ينطق بها، ولكنها كافية لتشعرك بخوفه الشديد وتقبله الحكم المفروض عليه ظلما، وفي الوقت نفسه عزّة النفس التي يجابه بها حاكميه وظالميه، وعلى رأسهم الضابط المخوّل الذي يقوم بدوره عامر حليحل، والذي يحاول شرح مفعول الجهاز لمسؤول (يقوم بدوره الفنان مكرم خوري) وصل من "الوطن" ليتعرف على ما يجري داخل هذه المستوطنة النائية البعيدة من تعذيب للبشرية بنية وضع حد لذلك!!!
حليحل، يأخذ على نفسه دور الشرّ المطلق، شخص يؤمن بمبادئه مهما كانت ظالمة ومظلمة، جندي ينفّذ الاحكام دون مسائلة، ولكنه يتحوّل للحاكم والسجّان والقاتل والمنفّذ لقرار الاعدام في آن واحد، فيجمع كامل أجهزة الأنظمة التي تدعي الديمقراطية في شخص واحد، وهذا ما يحوّله الى طاغية برؤية ساسة "الوطن"! ولكن عندما يصل المسؤول من هذا "الوطن" الى مستوطنة العقاب، ويحاول تفادي أن يتحوّل بنفسه الى الحاكم والسجّان، يجد نفسه شاهدا على هذا التعذيب، متلبكا بين مهمته في الحفاظ على القانون المتمثل بالضابط المسؤول في هذه الحال، وبين إنسانيّته ورغبته بتحرير السجين…. ولكن المفاجأة الأكبر تكون عندما يتبادل السجّان والسجين الأدوار، ليثبتوا للمسؤول أن طابع البشرية هو الشر، وأنه هو بنفسه لا مفرّ له منها في نهاية الأمر!!! وقد تكون هنا الرسالة الأهم، أن البشرية مهما ادعت الانسانية، يبقى الشر جزء من غريزتها!!
يذكر أن المسرحية من تأليف الكاتب المسرحي التشيكي فرانس كافكا، ترجمة علاء حليحل، إعداد وإخراج أمير نزار زعبي، تصميم أشرف حنا، إضاءة جاكي شيمش، وموسيقى ريمون ضو.