بقلم: نايف خوري
غولدوني: يعتبر كارلو غولدوني من كتاب الكوميديا البارزين، الذين وضعوا أسس الكوميديا الإيطالية الحديثة. ولد في البندقية في إيطاليا 1707 وتوفي في باريس عام 1793، وكان أبوه من أثرياء المدينة، وحول قصره إلى مسرح لكي يمارس ابنه فن التمثيل. وحاول غولدوني أن يبتكر نهجًا جديدًا في الكوميديا الإيطالية، وخاصة الكوميديا الارتجالية والمعروفة بالكوميديا دي لا رتي. وقد عرضت عليه إدارة الفرقة الإيطالية الكوميديا دي لارتي في فرنسا، وكانت هناك منافسة شديدة بينه وبين مسرح الكوميدي فرانسيز، الذي رعاه موليير وكورني. وعندما توفي ترك خلفه نحو مائة وخمسين مسرحية. وأما خادم السيدين فهي من مسرحياته الكوميدية الجميلة التي
تعتمد على المواقف الطريفة والمحرجة والحركات البهلوانية والكلمات والتعابير المضحكة.
غولدوني في الميدان: لقد جاء اختيار هذه المسرحية، كما قال رئيس الهيئة الإدارية المحامي وليد الفاهوم في كلمته: "يحق لنا أن نضحك من القلب ولو أننا في بعض الأحيان كالطير المذبوح من الألم". أما المخرج رياض مصاروة المدير العام للمسرح، فقد أشار إلى أن الجمهور يحتاج إلى الضحك، الضحك الذي يتوقف فجأة أو نوقفه لنسأل أنفسنا "لماذا نضحك"؟ توصلنا الدمعة إلى استنتاجات، كما يوصلنا الضحك إليها". وعليه نقيس مشاهدتنا لهذه المسرحية.
إن أول ما يلفت نظر المشاهد لهذا العمل، هو المنظر العام للديكور، ثم الإنارة والملابس بحسب ظهور الممثلين، والعوامل الأخرى على المسرح التي نسميها الإكسسوارات. وبمجرد ظهور الممثل نطرح على أنفسنا عدة تساؤلات حول الهدف من دخوله؟ أين كان قبل الدخول؟ ماذا سيفعل أمام الجمهور؟ وكيف سيتصرف ويتعامل مع الشخصيات الأخرى على المسرح. وبطبيعة الحال يأتي دور المخرج الذي يصمم كل هذا بالتعاون مع المختصين، ويعطي تعليماته للممثلين لأداء أدوارهم كما يتطلب الحال. وهنا يدأب المخرج على الالتزام بالخط العام الذي رسمه غولدوني لمسرحيته، والإيقاع الذي يجب المحافظة عليه.
ولكن الممثلين في هذه المسرحية، الذين أعرفهم وشاهدت أعمالهم من قبل، أدوا أدوارهم بنجاح إجمالي، ولكن فاتهم كثير من الهفوات التي لم يحرصوا عليها، مثل السؤال المطروح: من أين وإلى أين أنت داخل؟ إنه سؤال يعتبر مفتاحًا للممثل الذي ينظر إليه الجمهور كوهلة أولى. وذلك بالرغم من المشهد الذي تلقى فيه الأطباق من خلف الكواليس ويتلقفها الممثل أمام الجمهور دلالة على شدة جوعه. وأما سائر المواقف فقد جاءت متجاهلة لما هو قبل أو بعد الدخول. ربما يقول قائل إن هذا من متطلبات وضرورات النص لكي لا يلتقي السيدان معًا على المسرح فيتورط الخادم أشد ورطة. ولكن سائر الشخصيات التي ليست بحاجة ليتوارى أو ليظهر ممثلها على المسرح، كان بوسعها أن تحرص على هذه المسألة التي يراها الجمهور طفيفة، ولا يراعيها مخرجون كثيرون.
الممثلون: أثبت الممثلون قدراتهم على المسرح بما لا يقبل الشك، وحتى الأدوار القصيرة كانت شبه متكاملة، وجدير هنا أن نذكر قول قسطنطين ستانسلافسكي، بأنه لا توجد أدوار طويلة أو قصيرة على المسرح بل أدوار ناجحة أو غير ناجحة. ولذا أجد نفسي ملتفتًا إلى الأدوار الثانوية والقصيرة لأكتشف قدرة الممثل على أدائها. فالدور الطويل سيقود صاحبه إلى صولات وجولات خلال المسرحية ليتقن عمله أو ليصحح أداءه. وقدم جميع الممثلين بلا استثناء فنهم وإبداعهم من خلال الشخصيات المتعددة التي لعبوها، وكانوا مقتنعين بأدوارهم وبالتالي أقنعوا الجمهور بصدق ظهورهم.
الترجمة والإعداد: شعرت بهذه المسرحية أنها كتبت باللغة العربية، وذلك لأن المترجم أدخل من روحه أكثر من التزامه بالنص الأصلي. وربما جاءت الترجمة عن العبرية وليس عن الإيطالية مع أنه قد يكون ملمًا بالإيطالية كالعربية. وقد ظهرت الكلمات منسابة في مواقعها كما هو مطلوب من الشخصية، سوى بعض الكلمات والمواقف التي ارتبطت ارتجالا بشخصية الخادم. ولا بد من الإطراء على بناء الشخصيات وتصرفاتها وسلوكياتها، وإن المواقف التي وضعها غولدوني في مسرحيته التي ظهرت قبل نحو 300 عام تختلف عن مواقف اليوم وكلمات اليوم، وتعابير الشخصيات ومراتبها الطبقية.
الإخراج: إذا كان كل ما شاهدناه على المسرح هو من تصميم وتنظيم وقرار ورؤيا للمخرج، فقد أجاد وأتقن فنه بنقل الصورة الوصفية من النص إلى الواقع، وحرك الشخصيات كما رسمها، مستغلا طاقاتها وجهودها في استثمار فنها وإبداعها. لأن إخراج عمل كهذا، لغولدوني يتطلب حرصًا شديدًا على تنفيذ كل حركة ولفظ كل كلمة. وأن يكون الممثل في مكانه الصحيح، والديكور والملابس والإنارة كلها تلعب دورًا لإنجاح هذا العمل المتكامل. وخاصة استحضار الجو الإيطالي والتدقيق في تفاصيل تكوينه. وكما قال أستاذ فن الإخراج المسرحي غوردون كرييغ: إن المخرج هو المشاهد الأول والناقد الأول للعمل المسرحي. ينفذه كما يريد للجمهور أن يراه. ولكن مخرجنا في هذه المسرحية كان يأخذنا أحيانًا إلى البندقية، حيث تجري أحداث المسرحية، وأحيانًا أخرى يأتي بنا إلى الواقع الحالي في مجتمعنا وبلادنا وبيوتنا، وإلى لغتنا ولهجتنا وطعامنا وتراثنا. ويمكن القول إن الكوميديا دي لا رتي، تتسع وتفسح المجال ليسكب الفنان فيها وبواسطتها عصارة أفكاره، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن كوميديا الموقف أشد وقعًا على المشاهد من الكوميديا اللفظية والتلاعب بالكلمات التي تثير الضحك فقط. وكما ذكر أرسطو عن الكوميديا في كتابه فن الشعر، بأنها محاكاة للأراذل من الناس، لا في كل نقيصة ولكن في الجانب الهزلي. واستطاع الثنائي نهاد قلعي ودريد لحام (حسني البرزان وغوار الطوشة) من بناء المواقف الهزلية عن طريق المقالب التي يركبها أحدهما على الآخر. وقد أدركا أهمية كوميديا الموقف وتحاشيا الألفاظ والكلام المضحك. وهذا يندرج مع النظرة التغريبية البريختيانية التي تدعو المسرح لكي يترك أثرًا فعالا لدى المتفرج حتى أنه يدعوه إلى إعادة النظر في أوضاعه وأحواله ومن ثم إلى تغييرها. فللكوميديا دور هام جدًا في التأثير على المجتمع عامة وعلى الأفراد خاصة. ومما يثبت ذلك أننا كثيرًا ما نردد أقوال وأفعال غوار وحسني كلما واجهنا موقفًا مشابهًا لما مرت به شخصياتهما. وهنا لم يشبعنا المخرج من الكوميديا بأشكالها، أو على الأقل كوميديا المواقف، وليس كوميديا الكلام فقط. وشعرت بالحاجة إلى مواقف تدهشني وتفاجئني ولم أكن أتوقعها من قبل.
الخلاصة: إن هذا العمل الذي يضاف إلى رصيد مسرح الميدان، ويضاف إلى رصيد مديره العام، ويضاف إلى رصيد المخرج والممثلين على حد سواء، يجعل الجميع في موقع المسؤولية الأكبر. وإن كل عمل فني قادم يجب أن يكون بمستوى هذه المسرحية وأفضل. ولا يمكن للفنان أن يقول هذا أفضل ما لدي، بل يجب أن يقول هذا أفضل مما فعلته من قبل. كما أن الفنان الذي يعتبر نفسه قد بلغ قمة الفن وأصبح نجمه في السماء السابعة، فهذا يدل على تقصيره في تقديم فن وإبداع أفضل في المستقبل. وهنا أضع المسؤولية على عاتق الميدان، إدارة ومجلسًا شعبيًا وعاملين، لكي يضعوا نصب أعينهم أعمالا ونشاطات وفعاليات أفضل ليبقى الميدان أفضل على الدوام.