موسوعة حيفا الكرملية: حيفا وقضاؤها 1750- 1948، تأخذ المعنى الدقيق للتأريخ بوصفه خبراً وتأويلاً، ويلفت إصدارها هذا العام إلى اشتغال مؤلفها المحامي علي البوّاب على مشروعه الموسوعي الذي بدأه بـ"موسوعة يافا"، وانتصاره لمفهوم المقاومة في قراءته التاريخية.
صدرت الموسوعة الجديدة في جزءين، وضم الأول 670 صفحة والثاني 718 صفحة، كما وزّع معها خريطة البلدة القديمة بحيفا أواسط القرن التاسع عشر، ومخططا لمدينة حيفا أعدتها بعثة المساحة الألمانية عام 1908، وخريطة شوارع حيفا كما كانت سنة 1948.
ويستهل المؤلف موسوعته بإهداء إلى "أرواح شهداء فلسطين الأبرار"، وتليها قصيدة "موطني" برمزيتها المعروفة ليصار إلى تقديم بقلم أستاذ التاريخ الدكتور محمد عدنان البخيت حيث أشار إلى "تقصي البوّاب مفردات الجغرافية التاريخية لقرية حيفا، ميناء الأسرة الحارثية"، وتلاحق الأحداث المصيرية على المدينة الساحلية.
"لم ينتزع المؤلف حيفا من محيطها المكاني، ولا عن نسق الأحداث في فلسطين منذ أن دخلت التنظيمات العثمانية إلى الولايات العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر"، يضيف البخيت.
وجه عربي
"استعادة وجه حيفا العربي" كان هدفا أساسيا لدى المؤلف الذي اعتمد على أعمال جامعية للأساتذة: مي صايغ ومحمود يزبك وآخرين، إضافة إلى سجلات محكمة حيفا ودفاتر الأراضي وملفات الأوقاف العثمانية، وشهادات شفوية لأبنائها المقيمين في مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان والأردن.
تنوّعت أسباب تسمية المدينة الكرملية التي بناها الكنعانيون، إذ وردت في "التلمود" بمعنى "المرفأ"، وسماها الصليبيون "كيفا"، ويرجّح البعض أن المدينة سميت بذلك لكثرة أشجار التوت فيها، غير أن اسمها "بوروفيريا" في العهد اليوناني يدلّ على "مدينة الأرجوان"، كما أوردت الموسوعة.
تعدد الأسماء لم يحل دون تدمير المدينة في القرن السادس الميلادي، لتعاود التجدد في القرن الحادي عشر الميلادي.
حيفا التي اشتهرت إبان الحروب الصليبية وفي عهد دولة ظاهر العمر الزيداني والعهد العثماني، حملت بعدها صورة سلبية في مشاهدات الرحالة منذ القرن السابع عشر، إذ وصفت بالقذارة ووجود قطّاع الطرق، وبقيت الحال كذلك حتى القرن التاسع عشر الميلادي وعادت مدينة معمورة بنيت فيها المدارس والمساجد والكنائس والخانات والحوانيت والفنادق والمستشفيات والحمامات وغيرها.
صور نادرة
الموسوعة ضمت صورا نادرة تعود إلى حارات حيفا في أواخر القرن التاسع عشر ورسومات تعود إلى فترة سابقة ومنها رسم للبلدة القديمة كما كانت داخل الأسوار القديمة للرحالة ويليامز في العام 1801 ويظهر فيها موقع برج أبي سلام الذي بناه ظاهر العمر، ويرافقها وصف دقيق للمدينة العتيقة وأسوارها وقلعتها وأبراجها وبواباتها وحاراتها وأزقتها وبيوتها وأسواقها ودور العبادة والمعاصر والمقاهي.
رسوم الرحالة والصور تعبّر عن تطور جليّ عاشته المدينة، فما بين مخطط تحصينات حيفا الذي وضعه سلاح الهندسة البريطاني في العام 1841 وبين مخطط البلدة القديمة وجوارها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر يُلحظ التوسع المتزايد وانتشار عمائرها.
بيع الأراضي
قراءة الموسوعة لصحيفة الكرمل التي كانت تصدر في بدايات القرن الماضي، نوّهت إلى موقف الصحيفة من عائلتي سرسق وتويني (الخواجات) ودورهما في بيع الأراضي لليهود. ومن "البيع" إلى "الاستيطان" يوثق البوّاب لأنظمة المستعمرات: الكيبوتز والموشاف، وأسماء المستعمرات جميعها وكيفية تأسيسها.
نُظم الإدارة في حيفا تشير إلى تطورها من قرية تتبع ناحية "عتليت" إلى مركز قضاء يحكمه قائم مقام بعد عودة حكم العثمانيين عام 1840، وهو تطور يوضح الحياة العامة بوظائفها وهيكلة الإدارة العامة وأهم الشخصيات التي تبوأت مراكز حيوية في المدينة، وإلى واقع السلطة والسجناء في سجونها، وتحصيل الضرائب من مواطنيها.
وفي توثيقه لقناصل الدول الأجنبية في حيفا، يؤرخ البوّاب لتعاظم نفوذهم وضغوط القنصليات البريطانية التي أدت إلى فصل النائب أبي النور حيث صدر أمر فصله من إسطنبول، وأوضحت سجلات المحاكم الشرعية أن هؤلاء القناصل مارسوا الأعمال التجارية بتوسع، وكان القنصل المصري، القنصل العربي الوحيد منذ 1925، إلى جوار قناصل إسبانيا وإنجلترا وروسيا (المسكوب) وأميركا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وبجيكا (الفلمنك)، حتى جاء قنصل سوريا ثابت العريس حتى احتلال حيفا.
سجلات بلدية حيفا التي تأسست عام 1885 تنبئ بالخدمات التي كانت تقدمّها من تخطيط الشوارع والأحياء وإصدار رخص الأبنية والرقابة الصحية على المرافق العامة وإنارة المدينة والبلاغات العامة والإشراف على محكمة البلدية التي تختص بالنظر في نزاعات المواطنين.
الأبواب التي تناولت التعليم والخدمات الصحية والمهن والوكلاء الشرعيون والمحامون والاقتصاد بلورت الحياة الاجتماعية لحيفا، إضافة لتوثيق الزراعة والبحر (الصيد والملاحة وخطوطها).
طرب وشعر
منذ كانت حيفا لا تتجاوز 3180 نسمة عام 1871 حسب السجلات العثمانية وحتى بلغت مائة وخمسين ألفاً عقب احتلالها، تعرض الموسوعة لهجرات اليهود المتتالية وأعياد سكانها وطقوسهم ومواسمهم وأزيائهم والموسيقى والغناء حيث أقامت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب حفلاتهما إضافة لحفلات الفرق المحلية والعربية.
وعرض المؤلف لأشهر رجالات حيفا منذ ظاهر العمر الزيداني مروراً بالمؤرخ إميل توما والشاعرين عبد الكريم الكرمي وأحمد دحبور، ووصولاً إلى الروائي إميل حبيبي، غير أنه أفرد باباً للحياة الثقافية موثقاً مكتباتها ومطابعها وحضور المدينة في الشعر العربي مرفقاً نماذج لشعراء معاصرين من أمثال: محمود درويش، ونزار قباني، ونازك الملائكة، وأدونيس.
كما خصص للصحافة في المدينة باباً أرّخ لأهم الصحف والمجلات التي بدأت بالصدور منذ العام 1908 وفي مقدّمتها: الكرمل التي أسسها نجيب نصار، ومجلة النفائس لخليل بيدس، ومجلة الزهور لجميل البحري، وصحيفة اليرموك، والنفير، ومجلة حيفا، وصحيفة الأردن لصاحبها خليل نصر، والاتحاد التي صدرت بلسان الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1944 وغيرها.
الصحافة اقترنت بالمسرح في مدينة تهوى الثقافة فظهرت الفرق المسرحية ومنها فرقة نهضة التمثيل الأدبية، وكتّاب المسرح ومن أشهرهم الصحافي جميل البحري، وقُدّمت العروض في المسارح ودور السينما والمقاهي ومنها "قهوة زهرة الشرق" و"مسرح جامعة الفرير" و"مسرح سينما عدن".
أحزاب ورجال
الحركة الوطنية خُصص لها باب شمل توثيقاً للثورات ضد الاحتلال الإنجليزي والأحزاب العربية التي انضم إليها الفلسطينيون وبدايات العمل المسلّح وإضراب عام 1936، وصولاً إلى الأحزاب الفلسطينية ومنها حزب الأحرار الفلسطيني والحزب العربي الفلسطيني وحزب الكتلة الفلسطينية وغيرها، ومن أبرز رموزها: حنا عصفور، ووديع البستاني، وفؤاد ووديع حداد، وفؤاد عطا الله وآخرون.
وتصل سيرة الأحزاب إلى المعارك الأخيرة مع الاحتلال البريطاني وكيفية سيطرة اليهود على المدينة وتهجير العرب الذي وثق عبر الصور.
اختتمت الموسوعة بباب كبير احتوى جميع القرى العامرة على جبل الكرمل وتتبع قضاء حيفا وزودت بمعلومات عن التعليم والصحة وعادات الزواج والطلاق وأحوال السكان بشكل عام.