عقلية الضحية..

مراسل حيفا نت | 30/05/2011

د. رفيق حـــــــــــاج

ان تبنّينا لعقلية الضحية يعفينا من أخذ مصيرنا بأيدينا ويجعلنا نلقي التهم على الآخرين بكل ما يخص عجزنا وتقصيرنا. عقلية الضحية قادرة على تجميد الوضع القائم وشل حركة الفرد وتخدير الفكر الانساني، وهي لا تؤثر على موازين القوى بل تزيد الضعيف ضعفا

 

المتبني لعقلية الضحية انسان مرّ تجربه قاسية او مأساة لم يكن له أي ذنبٍ بها. جعلته يفَقَد الأمل بالخروج من محنته ويبكي مصيره المشؤوم ليل نهار مُستجدياً العطف والدعم من مجتمعه، لكن التجارب الانسانية تثبت ان لا حاجة ان نكون ضحية لنتبنى عقلية الضحية، ولا حاجة ان نكون فقراء لنتبنى عقلية الفقر، او ان نعيش في الادغال لنتقمّص عقلية الغاب. نحن نختار عقلية الضحية طوعا لا قسراً لكي نهرب من أخذ المسؤولية على حياتنا ومشاكلنا وتحدياتنا ونلقيها في ملعب غيرنا. ان ممارسة هذه العقلية تعفينا من أخذ مصيرنا بأيدينا وتجعلنا نلقي التهم على الآخرين بكل ما يخص عجزنا وتقصيرنا وتراجعنا وتقهقرنا وتخلينا وتغيبنا وفقرنا وعوزنا وغيرها من الحالات السلبية. عندما نتبنى عقلية الضحية نصبح غير مُلزمين بإعطاء تفسير لعُنفنا وفظاظتنا وكذبنا وافترائنا وسرقاتنا. الامور جميعها مسموحة بنظرنا، فنحن "الضحية" وعلى المحيطين بنا ان يتفهّموا ذلك وألّا يؤاخذونا حتى لو أخطأنا بحقهم او اوقعنا بهم ونتوخّى منهم أن يهبوا لمناصرتنا بالرغم من ذلك. تقوم الضحية باتهام كل من حولها وآخر من تتهمه نفسها، وهي تمارس سلوكيات الضحية في مجالات عديدة بعيدة كل البعد عن المجال الذي تحوّلت به الى "ضحيه"، وتمتد اتهاماتها ايضا للقدر وسوء الطالع والقسمة والمكتوب.

ان احد اسباب شيوع عقلية الضحية هو كونها لا تتطلب جهودا كبيرة او تكاليف باهظة , فكل ما هو مطلوب منا فقط التصريح بكوننا ضحية لغُبن لَحِق بنا او تمييزٍ مورس ضدنا او سوءِ حظٍ كان من نصيبنا او طفولة صعبة مررنا بها. إن سُئلنا لماذا لم ننجح في دراستنا نعزو ذلك الى عدم قيام الأهل بدعمنا, او لتخليهم عنا وتفضيلهم الآخرين علينا. وان قام احدهم بلومنا على ادماننا على التدخين او الكحول او المخدّرات فنشير له ان يتركنا وشأننا لأن ما مررنا به من مشاكل "يكسر ظهر الجمل". وعندما يقومون بسؤالناعن سبب هربنا من البيت وتخلينا عن الزوج(ة) والاولاد نزعم اننا نخشى النظر في اعينهم بعد ان فُصلنا من عملنا. وان سألونا عن عزوفنا عن الزواج بعدما تخطينا الاربعين من العمر نخبرهم بأنه بعد خيانة محبينا لنا لم نعد نثق بأحد.

عقلية الضحية قادرة على تجميد الوضع القائم وعلى شل حركة الفرد وتخدير الفكر الانساني وتقنيته في قناة واحدة وصبغه بلون قاتم لا يزول بمرور دهور كاملة , ومن شأنها ان تقتل المبادرة في عقرها وتجهض محاولة الاصلاح والتغيير حال خلقها. من يصرّ على ممارسة هذه العقلية يحكم على نفسه بالاعدام الروحي والنفسي والاجتماعي او السجن مدى الحياة في زنزانة البؤس والكآبة ويجلب الالم والمعاناة له وللمحيطين به.

 

عقلية الضحية لا تخص الافراد وحسب , انما المجتمعات والشعوب ايضا , خاصة من مرّوا بأزمات وكوارث او يعيشون تحت وطأة الاجحاف والتمييز كشعبنا العربي الفلسطيني في هذه البلاد. لاحظوا كيف نعزو كل فشلنا في ادارة سلطاتنا المحلية الى سياسة التمييز، ونتهم سياسة الحكومة بعدم قبولنا للجامعة وبفشلنا في ادارة مصالحنا الاقتصادية وبخسارتنا المباراة امام خصومنا وبتفشّي العنف والفوضى العارمة في مجتمعنا، وكأنه لا ذنب لنا بما آلت عليه اوضاعنا- فنسبة جباية الضريبة البلدية تعدّت الـ %100 ورؤساؤنا يتمتعون بمهارات ادارية فائقة ورغبة جامحة لخدمتنا ورعاية شؤوننا، وقد عملنا المستحيل من اجل نجاحنا في الجامعة لكن كل ذلك لم يُجدِ نفعا لأن هنالك "سياسة مُدبّرة" ضدنا.

تسود عقلية الضحية ايضا لدى الاقليات العربية والاسلامية في اوروبا. قال صديق خان، النائب المسلم في مجلس العموم البريطاني (البرلمان) قبل ثلاث سنوات إن المسلمين في بريطانيا "مذنبون بحملهم ذهنية أنهم ضحايا"، ويتعيّن عليهم تحمل مسؤولية أكبر تجاه أنفسهم وشؤون حياتهم وعائلاتهم، وأن يتجاهلوا أولئك الذين يروجون لنظريات المؤامرة، وفوق ذلك كله عليهم التخلي عن ذهنية كونهم ضحايا.

هنالك العديد من الشعوب التي مرّت مآسِ ومصائب لا تقل شأنا من الشعب الفلسطيني لكنها نجحت بتخطّيها او بتحويلها لاداة استجداء ناجعة لكسب العطف والتأييد والدعم المالي. من البلدان التي تحولت الى ضحية الاستعمار وعانت من الذل والمهانة والهيمنة الإمبريالية الغربية خلال القرنين الأخيرين هي الصين أُم الحضارة العريقة والتاريخ الطويل، حيث جرت محاولات لتجزئتها وتحويلها الى بلد التجارة بالأفيون، وقد قام اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية بإبادة مدن بأكملها في غفلة عن العالم. وكان الصينيون مثلنا لا يكفون عن اتهام الغربيين  "بالمعايير المزدوجة" وبمساهمتهم في تخلف الصين وفقرها، لكي يحصلون على امتيازات ومساعدات وتأييد سياسي.

لقد تخلت الصين عن هذه العقلية الهدامة في العقود الاخيرة ووصلت الى نتيجة ان العالم لا يحب الضعفاء وبدأت بأخذ زمام الامور وتطوير صناعتها وزراعتها وجهازها التعليمي حتى باتت البضائع الصينية تغزو اسواق العالم. كذلك الأمر بالنسبة لليابان التي كانت ضحية القنابل الذرية في مدينتي هيروشيما وناغازاكي. لم تقف هذه الشعوب مكتوفة الايدي تندب مصيرها وتستجدي رحمة العالم وانما تخلّصت بسرعة من عقلية الضحية وبدأت تشق طريقها.

لعقلية الضحية توجد آليات خاصة بها تجعل الضعيف يزداد ضعفا، وفي النهاية فهي لا تجدي على الإطلاق لأنها لا تصحح موازين القوى، ولا تُعدّل موازين الأخلاق في العالم، وتخلق في النهاية نزعات انتقامية تأكل في روح المَجني عليه وتجعله دوما أسير الماضي بأكثر من كونه جزءا من المستقبل.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *