الـﭙـروفسور جورج جرجورة قنازع سيرةُ عالِمٍ جادَ وأجادَ وقاد

مراسل حيفا نت | 21/05/2021

الـﭙـروفسور جورج جرجورة قنازع
سيرةُ عالِمٍ جادَ وأجادَ وقاد

أسعد موسى عودة
الكبابير \ حيفا

كان الـﭙـروفسور جورج قنازع اسمًا يتردّد في الآفاق، يحكي عن رجل من بلادي أحبّ أدب العرب القديم، فسَبَر غَوْرَ كنوزه فباح له بجميع أسراره، ليطير فيها وبها أيّ مطار.
نال الـﭙـروفسور جورج قنازع تعليمه الابتدائيّ والثّانويّ في مدارس النّاصرة، أربعينيّات القرن العشرين وخمسينيّاته، وسرعان ما التحق بالجامعة العبريّة في القدس فحاز منها اللّقب الأكاديميّ الأوّل، عام ألف وتسعمائة وأربعة وستّين، في اللّغة العربيّة وآدابها والأدب الإنـﭽـليزيّ. وبعدها بسنتيْن حاز من الجامعة نفسها اللّقب الأكاديميّ الثّاني في اللّغة العربيّة وآدابها والحضارة الإسلاميّة، بأُطروحة عن فنّ الخطابة العربيّة. ثمّ طار الشّاطر المُدهِش وهو في رَيْعان العمر ومُقتبَل الشّباب إلى ولاية لوس أنجلوس الأمريكيّة، ليحوز ابنُ الثّلاثين صيفًا هناك، عام ألف وتسعمائة وواحد وسبعين، لقب الدّكتوراه في النّقد الأدبيّ العربيّ من جامعة كاليفورنيا [“يو.سي.إل.إي”]، باحثًا ناقدًا في كتاب ولكتاب الصّناعتيْن لأبي هلال العسكريّ.
كان الـﭙـروفسور جورج قنازع من أوائل القلّة القليلة جدًّا – حيث كانوا يُحْصَوْنَ بالآحاد – من المحاضرين في الجامعات الإسرائيليّة من عرب البلاد، وكان من مؤسّسي قسم اللّغة العربيّة وآدابها في جامعة حيفا مطلع سبعينيّات القرن العشرين، وقد أحسن التّسلّح بأدوات الباحث الجادّ المتجدّد المجدّد؛ فثابر في علمه وواظب على عمله وصدق في سعيه وعرف سبع لغات مهمّات رئيسات، فكان أوّل عربيّ في البلاد تَخلع عليه الأكاديميا الإسرائيليّة الفتيّة لقب “ﭘـروفسور”.
جاب الـﭙـروفسور جورج قنازع البلاد والعالم أستاذًا للأدب العربيّ القديم والنقد الأدبيّ، في غير معهد وكلّيّة وجامعة، وقد كان عضوًا وعضوًا مؤسّسًا في غير مجلّة علميّة ولجنة تخصّصيّة ومنظّمة دراسيّة ودائرة بحثيّة وكاتدرائيّة محلّيّة ودوليّة، يصبّ نشاط جميعها في خدمة اللّغة العربيّة وفي خدمة التّعليم العربيّ في البلاد ولعرب البلاد، وقد تَتَلمذ له آلاف الطّلّاب العرب والأجانب واليهود، وخرج من تحت عباءته غير باحث وعالم وإنسان. كما برز الـﭙـروفسور جورج قنازع، أيضًا، بمساهماته العلميّة الرّائدة المرموقة باحثًا في أدب الفِرَق في الإسلام وفي أدب مَقاتل الشّيعة الطّالبيّين، وفي الأدب الفِلَسطينيّ في إسرائيل وخارجها، وفي هُويّة العرب في إسرائيل في مَعْمَعان الصّراع الإسرائيليّ الفِلَسطينيّ. ولدى خروج الـﭙـروفسور جورج قنازع إلى التّقاعد الرّسميّ من جامعة حيفا وتسنّمه لقب الأستاذيّة الفخريّة، عام ألفيْن وتسعة، عقدت الجامعة مؤتمرًا دوليًّا على شرفه، استمرّت أعماله مدّة ثلاثة أيّام، دُعي إليه وحضره كبار الباحثين في اللّغة العربيّة والأدب العربيّ من البلاد والعالم، وقد جُمعت محاضرات هذا المؤتمر في كتاب قيّم، صدر، لاحقًا، باللّغة الإنـﭽـليزيّة تكريمًا لحضرته ولمسيرته العلميّة الحافلة.

لم يكن لي سابق معرفة شخصيّة به حين شرُفت – قبل نحْو عَقديْن من عمر المكان والزّمان والإنسان – بأن أكون أحد طلّابه على مدرّجات قاعات جامعة حيفا، في تاريخ الأدب العربيّ القديم، وقد برز الرّجل في محاضراته وخارجها بدماثته وخُلُقه وعمقه وطلاوته، وبحُسن تناوله وسلاسة أسلوبه، وهو يَرفُل بحيويّة العارف وحَياء الباحث الجادّ المجتهد وتواضع العالم المُقتصِد. ولكنّي أذكر أنّي كنت صادفته قَبلها، أوّل مرّة، قبل نَحْو ثلاثة عقود أو يزيد، حين شرّفنا في مركَز الجماعة الإسلاميّة الأحمديّة بالكبابير، ضيفًا كريمًا ومتحدِّثًا مِصْقَعًا مُفَوَّهًا عن سيرة النّبيّ العربيّ الأكرم، محمّد صلّى الله عليه وسلّم، حيث احتفينا، يومها، بالسّيرة النّبويّة العطرة، وأذكر كم استطرب الأستاذ الفقيد – رحمة الله عليه – حينها، وكم استلطف واستطرف واستظرف الاستماع لقصيدة زميله وداعيه الحَميم، والدنا الغالي – أمدّ الله في عمره – الأستاذ موسى أسعد عودة، في ذلك المقام، حيث قال في مطالعها:
“على جبل الزّيتون والدّهرُ شاخصٌ \ تعالتْ إلى الأجواء في أبعد المدى \ نداءات عيسى يستحثّ محمّدًا \ من الأزل المجهول صوتًا مردَّدًا \ أفاقت ذُرى نجدٍ على رجع صوته \ فأكرِمْ به صوتًا وأكرِمْ به صدى”…
في الحادي والثّلاثين من تموّز العام 1941 وُلد الفتى جورج جرجورة قنازع في ناصرة البشارة والإشارة، لأسرة سوريّة الأصل فِلَسطينيّة الهوى، فنشأ في النّاصرة وفيها أراد أن يُنشئ – بعد خروجه إلى التّقاعد – أوّل جامعة عربيّة في البلاد، ولكنّ جَهد الأيادي البيضاء ضيّعه الغرباء والأشقياء والأغبياء، فاغتالوا حُلْم أبي أحلام. وقد شاءت أقدار السّماء أن يغادرنا أبو شادٍ يومَ الجمُعة المباركة، الثّاني من شهر شوّال، ثاني أيّام عيد الفطر السّعيد لعام 1442، 14 أيّار 2021، عن عمرٍ عريض مديد قد ناهز الثّمانين، في فترة عصيبة من حياة فِلَسطين.
تغمّده الله بشآبيب رحمته وأسكنه فسيح جنّاته، وشمله بنوره السّرمديّ، مع أبي هلال العسكريّ والمتنبّيّ وأبي عبد الله النّمريّ وعبيد الله الجعفيّ والحسيْن بن عليّ، وكثير غيرهم من مبحوثيه – محبوبيه الأبرز، أمثال عبد الله بن المعتزّ.
وما هذه الخاطرة إلّا أضعف الإيمان عرفانًا لأستاذ أخلص لعلمه وعمله وطلّابه، وكان مثالًا يُحتذى، ولا يزال ولن يزال، للجِدّ والكدّ، وحبّ المعرفة ورصانة البحث، وتواضع العالم الإنسان.
ولزوجته أمّ شادٍ آمال، ولابنته أحلام، ولابنيْه شادٍ وهشام، ولكلّ أهليه وذويه وطلّابه ومريديه وزملائه وأترابه ومُجايِليه أرجو الصّبر والسّلوان، حُسن العزاء وطول البقاء.
ولِي عودة منكم إليكم أيّها الأعزّة – إن شاء ربّ العزّة – للحديث، أبدًا، عن لُغتنا ونحْن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *