د. رفيق حاج
هنالك روادع وكوابح نضعها لانفسنا طوعا وعن قناعة ذاتية للحفاظ على انفسنا لكي نصل الى مبتغانا وهي الضوابط الذاتيه. ان انضباطنا الذاتي ينعكس في نجاعة ادارتنا لشؤوننا الماليه ولشكلنا وهندامنا وقوامنا وبعض سلوكياتنا. من لا يملك ضوابط ذاتيه لا يمكن ان يكون رئيسا او مديرا او قائدا!
يُخطئ من يحسب ان الانضباط الذاتي له علاقة بالانضباط العام والالتزام بالقوانين والمتبعات التي يفرضها المجتمع والقانون والدين. الفرق بين الانضباط الذاتي والانضباط العام شاسع فالاول اختياري , اما الثاني فشبه اجباري. من لا يلتزم بالقوانين يُحاكم ويُعاقب وقد يُسجن، ومن لا يلتزم بالعادات والتقاليد يُشار اليه بالبنان، ومن لا يتماشى مع التعاليم الدينية فالحساب العسير ينتظره يوم القيامة. ان "العقاب" الذي يكون "من نصيبنا" اذا تمرّدنا وعصينا يردعنا عن القيام بأعمال خارجة عن الاجماع العام، لكن هنالك روادع وكوابح نضعها لانفسنا طوعا وعن قناعة ذاتية لكي نحافظ على انفسنا ونصل الى مبتغانا او نتفادى اضرار قد نجلبها لأنفسنا، وهذه الروادع تُسمى "الضوابط الذاتية". ان عدم انصياعنا لتلك الضوابط، التي وضعناها بأنفسنا لأنفسنا، لا يقودنا الى السجن ولا لسحب رخصة سياقتنا ولا لإقصائنا من مجتمعنا او طردنا من عملنا وانما يقلل من فرص نجاحنا ووصولنا، ويمسّ ثقتنا بأنفسنا ومن ثمّ الى انحسار رقعة مؤيدينا ومحبينا.
تتجلى ظواهرعدم الانضباط الذاتي في امورٍ عدة :أولها شكلنا وهندامنا وقوامنا. عادة ترى مُفرطي السمنه معدودين على غير المنضبطين ذاتيا, فحبهم للطعام لا يعرف الحدود ولا يكفّون عن ازدراد الطعام والحلوى على مدار الـ 24 ساعة , دون ان يرافق ذلك التزام منهم لممارسة أي نوع من الرياضة البدنية لحرق تلك السعرات الحرارية الهائلة، والنتيجة كما تعرفون وخيمة ابتداءً باصابتهم بالامراض الخطيرة وانتهاءً بانعدام تقديرهم لانفسهم وتقدير الآخرين لهم. من ظواهر عدم الانضباط ايضا انفجارات الغضب, واللباس الاستفزازي لحدّ التعري, والادمان على النظافة لدرجة الهوس, والانتقال من حضن رجل الى آخر, "ونسيان" الإياب الى البيت, والثرثرة بدون حدود وضم الف "صديق" في الفيبسبوك, وتصفح الانترنت ليل نهار وغيرها وغيرها من الظواهر التي يميزها امران وهما غياب حدود وخطوط حمراء.
ينعكس الانضباط الذاتي ايضا على اداراتنا لشؤوننا المالية وعلى حسابنا في البنك. فترى غير المنضبطين منّا غارقين في الديون حتى اذنيهم وغير قادرين على تأمين شيخوختهم او تحسين احوالهم حتى لو كانوا من متقاضي المعاشات الكبيرة. ان الدخل العالي لا يشكّل ضمانا لهم لعدم التورّط في مشاكل مالية, بل على العكس، فهو يحفّزهم على "التخبيص والتلبيص" لأنهم يحتسبون خطأً أن معاش آخر الشهر قادر على سدّ العجوزات المالية الكبيرة التي وصلوا اليها. لقد اشتكى لي أحد الاصدقاء أن دخله وزوجته يعادل ثلاثة اضعاف دخل عائلة اخيه لكنه مع ذلك فهو مدين للبنك بمبالغ طائلة وقد تدهورت حالته الى درجة انه لا يجرؤ على الرد على الهاتف اذا لم يتحقق من هوية المُتّصل، أما أخوه رغم دخله المحدود فقد نجح في تعليم ابنائه الثلاثة في الجامعة ,ووضعه المالي فوق الجيد ولم يسمعه قط يشتكي من نقص او عوز. طبعا الفرق بين الاخوين هي الضوابط الذاتية وسلم الاوليات التي وضعها كل واحد لنفسه ولا حاجة للخوض في تفاصيلها.
هنالك الكثير من الناس من يفشلون في حياتهم ليس لانعدام القدرات او المواهب وانما لانعدام مبدأ الالتزام لديهم، ولكي يبرروا فشلهم يسارعون في تطوير نظريات وفلسفات خاصة بهم، فإن سألتهم عن سبب تأخرهم في القدوم الى العمل يجيبونك "المهم الانتاجية..وليس الالتزام بالوقت"، وان قطعت عنهم الامدادات لتقصير بدر منهم فيتهمونك بالقسوة او العنصرية او الرغبة بالحاق الضرر بهم لاسباب شخصية، وإن أشرت لهم بأنك لن تحتمل بعد الخدمة السيئة التي تتلقاها منهم فيعزون ذلك للظروف الصعبة التي يمرون بها. بإختصار يتهمون كل جسم يتحرك ولا يحاسبون انفسهم ابدا، وبدل ان يقوم هؤلاء بمراجعة سلوكياتهم يحوّلونها الى "نظرية" ويكابدون في اقناع الآخرين بها.
ان المنضبط ذاتيا هو انسان متفائل لا يعرف اليأس ومحب لعمله ومُدرك للمسؤولية الملقاة على عاتقه ولا يستسلم للظروف مهما كانت ويملك قدرة فائقة على التحمل، ولا يسمح للملل أن يتسرب إلى ذهنه , هذا الملل الذي ادى الى فشل الكثيرين ممن بحثوا عن الجانب الممتع في أعمالهم ولم يؤمنوا بأنه لا يوجد عمل في هذه الحياة بلا تعب وان من جد وجد ولم يتماشوا مع مقولة "الصبر مفتاح الفرج". ان من لا يُتقن الصبر والانضباط سيفشل لا محالة. المنضبط ذاتياً هو شخص عصامي وعاقد العزم على الوصول وهو منظّم لا يتبع هواه ويقبل الواقع ولا يتذمر منه لأنه صاحب إرادة وعزيمة وهمة لا يتردد في تنفيذ ما يكلف به من مهام مهما زادت صعوبتها.
لانضباطنا الذاتي انعكاسات كبرى على تقديرالناس لنا وثقتهم بنا. كيف يمكن ان نؤيد مرشحا للسلطة المحلية غير قادر على ادارة اموره المالية الشخصيه؟ من الواضح ان لرئيس كهذا لا توجد ضوابط شخصية فكيف ستكون له ضوابط عامة لادارة شؤوننا بشكل سليم ومتزن؟ او كيف نسمح لأنفسنا القيام بتعيين احد المعلمين مديرا علينا اذا كان يتأخّر كل يوم وينقطع عن العمل ثلاثة ايام في الشهر؟ او كيف يمكن ان نقوم بترقية فلان لمرتبة "مدير العلاقات العامة" اذا كان ينفجر يوميا غضبا على احد الزبائن؟ او كيف نجرؤ على تعيين ضابط احداث وهومن اتهم بالتحرش الجنسي بالفتيات الصغار ؟ من ليس له ضوابط ذاتيه لا يُعقل ان تكون له ضوابط عامة!
يقولون ان "الاشياء اللذيذه" في هذه الحياة هي واحدة من ثلاثة- ممنوعة قانونيا أو محرّمة دينيا او مُسبّبه للسمنة. مع أن هذه المقولة لا تخلو من روح الدعابة الا انها تحوي الكثير من الحكمة والصدق فالدولة والدين والمجتمع والطبيب وضعوا لنا خطوطا حمراء لتحد من تجاوزاتنا وانغماسنا في لذاتنا ولم يبق لنا غير ان نختار في أي درب نسير.