سَفَرْ بَرْ لِك – د.خالد تركي

مراسل حيفا نت | 26/01/2009

         د. خالد تُركي – حيفا

الزّمان: أيّام السّفر بَرْ لِك وكلمة السّفر بَرْ لِك تعني السّفر إلى برّ الأناضول.

المكان: بلاد الشّام وتشمل سوريا، لبنان، ألأردن وفلسطين.   

الزّمان يُشبه زماننا والمكان هو نفسه مكاننا.

 

استْلَم يوسف، ابن الثّامنة عشر ربيعًا، أمرَ التّجنيد الإجباري مختومًا ومُوقَّعًا من الباب العالي، يُعلِمه فيه لُزُوم حضوره إستامبول حال تسلّمه أَمْرهُم العسكري للالتحاق بالجيش العثماني.

كانت الرّسالةُ رسالةَ وعيدٍ ونذيرٍ وتهديدٍ، إذا لم يُنَفِّذ الأمر ولم يحضُر إلى الدّائرة العسكريّة. فكُلُّنا يعرف عن كثبٍ وسمعٍ بالسّلطان عبد الحميد الجائر والظّالم والمُستبدّ والماكر والدّاهية والمُحنّك حيث ملأ بلاده وبلادنا بالجواسيس الذين كانوا يرتزقون من الدّسائس والوشايات والفساد أينما وُجِدوا، حتّى قصر السّلطان، يلدز، لم يسلَم من عيونه. كان السّلطان يخاف على نفسه وعلى منصبه من الإطاحة به، وعمل المستحيل السّابع  وأكثر لضمان كُرْسِيِّ عرشِهِ. فقد كان يُعيّن العسس على شعبه ومن شدّة خوفه عيّن جواسيسًا تُراقب جواسيسه، وكلّهم تحت إمرة السّر خفيّة، المسؤول عن جميع جواسيس السّلطان.

لقد كان مُخيفًا ومرْعِبًا لدرجة أنّه كانت لدى أهل البلاد قناعة لا جدال فيها أنّ للحيطان والسّاحات والأشجار والأحجار والأزهار والجبال والوديان والورود والسّدود آذانًا تسمع وأفواهًا تشي وتسرد ما تسمع أو تزيد على ما تسمع أو حتّى تسوِّف أمورًا لم تسمعها قطّ لتزيد من حقد وغضب السّلطان على من تكره. وكذلك عانى النّاس من الجوع والحرمان والغلاء والقطيعة والضّرائب الباهظة والفساد والكرامة المُهانة للمواطن من رجال الدّرك العُثماني أمام أهل

بيته وبلده.

فسافر يوسف مُكْرهًا إلى هناك، بعد أنْ تسلَّمَ الفرمان، رغمًا عنه وعن أهله. سافر وقد حرق قلبَه وقلبَ والديْه لهيبُ الوداع، برًّا إلى لُبنان، ومنها ماخِرًا عباب اليَمِّ إلى اليونان ومن ثمّ إلى الآستانة (القسطنطينيّة). والآستانة هي منطقة تربط بين قارّتي أوروبّا وآسيا، وتتكوّن من ثلاثِ مُدُن برّيّة، يفصِلُ بينها ثلاثة بحار. والأقسام البرّيّة هي استامبول في الجنوب وبك أو غلي بيرا في الشّمال وكلاهما في أوروبّا وأسكودار في الشّرق وهي في آسيا، ويفصل بينها البوسفور في الشّمال الشّرقي ومرمرا والدّردنيل في الجنوب وقرن الذّهب في الغرب الشّمالي (الانقلاب العثماني، جرجي زيدان، روايات تاريخ الإسلام صفحة 45).

بعد أن وصل دائرة التّجنيد، تسجّل وتسلّم زِيَّه العسكريّ ومرّ الجنديّ يوسف بفحوصات طبيّة حيث سُمِحَ له بعدها ببدء دورات عسكريّة ولغويّة.

لقد كانت نيّة العثمانيين حينها تتريك العرب وتعليمهم اللغة التركيّة بدلاً من العربيّة وراحوا إلى أبعد من ذلك إذ قاموا بعمليّة نقل بعض السّكّان العرب عن طريق السّكّة الحديديّة الحجازيّة، من بلاد الشّام ومن أرض الحجاز والجزيرة العربيّة إلى داخل أراضي آسيا الصُّغرى، إلى الأناضول وبالمُقابل تم ّ نَقْل بعض الأتراك إلى البلاد العربيّة بهدفِ تفريغ وطننا العربيّ من سُكّانه الأصليين وتغيير الطّبيعة السّكانيّة، لقد حاولوا بذلك إنجاح سيطرتهم على بلادنا بكُلّ الطّرق والوسائل، لكنّهم  كما هو معلوم فشلوا في ذلك.

 لقد بدأ يوسف بتعلّم اللغة التُّركيّة أسوة بباقي المُجنّدين، بالتّهديد والتّخويف تارةً والتّرغيب تارةً أُخرى، إذ بدأوا درس اللغة بالجملة التّالية:

تُركي بِلْيُور، الله بِلْيُور

تُركي بِلْماز، الله كُورِكْماز 

أي من يعرف اللغة التُّركيّة، يعرفُ الله ومن لا يعرفها، لا يعرف الله ويتنكّر

لوجوده، ويكون كافرًا وجاحِدًا ومُلحِدًا وعديمَ النّاموس ومثواه جُهَنّم الحمراء

حيث يكون خالِدًا فيها ولن يدخُلُ الجَنّةَ قطّ ولن يرى أنهارها الجارية من تحتها

ولا يُحسِنُ الله له رِزْقًا ولن يكون بعونه أبدًا.

ومن يقوى على مُقاومة وانتقاد السُّلطان عبد الحميد، أو عبد الحميد خان من آل عُثمان، أو الوقوف ضدّ الإرادة والذّات الشّاهانيّة ورفض أوامره وهو خليفة النّبيّ محمّد (ص) وأمير المؤمنين وظِلُّ الله على الأرض ؟ لا أحد.. 

لَبِسَ يوسف زيَّه الرّسميّ وباشر بالتّدريبِ والتّعرّف على مدينة استامبول وبحرها ومضائقها وحاراتها وأزقّتها، وشمس مغيبها على البوسفور وعند قرن الذّهب، وقصورها وقد ترك قصر يلدز، أشهر قصوره، ذكريات في قلبه لا تُنسى، فلا  ينقص القصرَ شيء من جمال وروعة وفنّ بناء، هندسيّ ومعماريّ، وترتيب الحدائق والبُحيرات ومقابل هذا الجمال والبهاء الخارجيّ كان معروفًا بقصر الظُّلم والطّغيان والطّاغوت ومدفن الأحرار والثّوّار.

بينما كان يوسف مارًّا بجانب أحد الحوانيت وإذ بسيّدة تطلب منه حَمْلَ طفلها لكي يتسنّى لها شراء بعض حاجيّاتها وحاجِيّات طفلها من البقّالة المجاورة، فأخذ طفلها منتظرًا عودتها. وحين طال انتظاره ولم تعد السيّدة لأخذِ طفلها الرّضيع، أصابت يوسف حيرة مُحْرجة لا مخرج منها وأسئلة لا أجوبة عليها، أين يضع يوسفُ، وهو في بلاد الغربة، الطّفلَ؟ كيف يُطعِمُهُ إن أخذه؟ فهو بالكاد يُطْعِم نفسه وإن قرّر أخذه، فهو في بلاد لا يعرف فيها أحدًا غير معسكره وضابطه، لا يعرف مسكنًا ولا ملجأً ولا مُجيرًا سوى فكرة ساورته، أن يضع الطِّفلَ عند باب أقرب جامع يجده في طريقه، ويتركه هُناك ليمضي إلى حال سبيله. ذهب إلى الجامع المُجاور ووضع الرّضيع عند مدخله وهَمَّ بمغادرة المكان وشعَرَ بارتياح لم يشعر به منذ زمن، لكن إمام المسجد قطع ارتياحه وراحته حين أمسك بيوسف متلبّسًا بالتُّهمة قائلاً:

آه! هو أنت الذي تأتينا كلّ يوم بطفلٍ وتضعه قرب باب الجامع، لقد "قفشناك"، "نادر بو" تضع الأطفال هنا كلّ يوم..

شعر يوسف بخفقانٍ مُريبٍ في صدره كاد يُطيّر قلبه من قفصِه واحتقن الدم في

عروقه وغسل جلده العرقُ بعد أنْ صاح الإمام مُناديًا المُصلّين "هايْدِي بَكَالُم" ليُمسِكوا بيوسف ريثما يُحْضِرُ له الضّابط العسكري ليتدبّر أمر ذلك الذي أصبح يُشكّل مصدر إزعاج يوميّ بوضعه طفلاً كلّ يوم. فقد أتَوا بالطّفل الذي تُرِك قبل يوم وحمّلوه ليوسف وهكذا حمل الطّفليْن معًا، وحمّلوه مسؤوليَّتهما. فبعد أنْ كان يوسف المسكين في مشكلةٍ واحدةٍ أصبح يحمل مُشكِلتين. وعندما حضر الضّابط، قصّ عليه يوسف روايته فطلب منه أنْ يدع الوديعتين، الرّضيعين، في ملجأ فاطمة خانم الواقع في حيّ القصبة في مركز المدينة. فذهب إلى هناك وأودع الطّفلين في الملجأ وعندما خرج من المكان، صادف يوسفُ زوجَ فاطمة خانم يدخل البيت فصرخت بأعلى صوتها لسببٍ لم يعرفه يوسف: آه زوجي! آه زوجي! وإذ بباب الخزانة والسَّبَتِ والحمّام يُفتح ومن كلّ باب يخرج عشيقٌ،

فتعجّبَ زوجُها ويوسفُ من رؤية هذا المنظر حيث سارعت للقاء زوجها لتعانقه وتُسمّي عليه بأسماء الله الحُسنى جميعها كي تَطرُدَ الشّيْطان من قلبه ومن فكره ويُكذِّب حقيقةَ ما رأى، وبذلك تكون زوجته صادقة وما رآه حقيقةً، يكون قد شُبّه له، وتكون قد قطعت شكّه، رؤيته، بيقينها، بحيلتها، وحينها يتحمّل الزّوج إثمَ بعض الظّنّ. وهكذا تكون فاطمة، الحاضِنة و"الحاضِنة"، قد درأت الحدودَ بالشُّبُهات.

عاد يوسف، هاربًا من بيت فاطمة خانم وملجئها، إلى المعسكر، ودخل غرفة رئيس الدّرك بعد أن سمح له بالدّخول بقوله: خوشّي غالدي، فأجابه يوسف داخِلاً: صفا بُولْدِي. فاستجوبه عمّا حدث وسمح له بدخول ساحة المعسكر ووجد جنود فرقته يتعلّمون نشيد العسكر التي تدلّ كلماته على وجوب طرد المحتل المُحتال من دياره وأنّ الاحتلال آفلٌ لا مُحالة وإلى زوال أكيد، وكأنّ جند آل عثمان الذين احتلّوا بلادنا موجودون في بلادهم، بنشيدهم:

عسكر عسكر عسكر ليك

سفر بر لك دا برلي

شان قلعة إيتشندا

دوشمان الدي (لِنَطْرُدَ العَدُوَّ). 

وبعد إنهاء النّشيد، قصّ على أصدقائه ما حصل معه في ذلك اليوم، حتّى يحذر كلّ واحد منهم فلا يؤتى حذر من مأمنه، إذا نزل المدينة.

بعد أنْ سقط الرّجل المريض، من آل عثمان في الآستانة، فريسة في فكّي فرنسا وانكلترا وروسيا القيصريّة، ووزّعوا تِرْكَته حين وقّعوا على اتّفاقيّة سايكس بيكو (نسبةً للفرنسيّ جورج بيكو والانجليزيّ مارك سايكس) في بيترغراد عام 1916 والذي يقضي بتقسيم أراضي الوطن العربيّ الواقعة تحت السّيطرة العثمانيّة بين هذه الدّول الثّلاث، إلا أنّه بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكيّة العُظمى في روسيا القيصريّة في العام 1917 كشف فاضِحًا بنود الاتّفاقيّة وفتّح أعين القوميّين العرب الذين خُدعوا من الانكليز تحت الغطاء الهاشمي ممّا أدّى لاحِقًا إلى تبلور حركة ثوريّة عربيّة قوميّة مناهِضة للاستعمار والرّجعيّة العربيّة، أرسل يوسف رسالة إلى أمّه يُخبرها فيها عن عودته القريبة إلى بلده، وحين استلمت أمّه الرّسالة لم تعرف قراءتها ولم تجد أحدًا يقرأها سوى ابنها الأصغر، مع أنّها تعلّمت في المدرسة الإرساليّة الأدب العربيّ والأشعار التي حفظتها عن ظهر قلب شريطة ألا تتعلّم القراءة أو الكتابة حتّى لا تتكاتب لاحِقًا مع أترابها وأصدقائها في البلدة.

عاد إلى بلدته وفرِح والداه به وبعودته سالِمًا بعافيته وصِحّته واجتمع الأهل والأصدقاء من حوله ليقُصّ عليهم ما رآه هناك، وسألوه عن باقي أصدقائه من أهل البلدة فأخبرهم عن جميع الذين كانوا معه فمنهم من عاد ومنهم من قضى نحبه ومنهم من بقي هناك ومنهم من ضاع في بلاد الله الواسعة.

ما أشبه اليوم بالأمس.

فشلت عمليّة التّتريك وبقي الشّعب العربيّ مُحافِظًا على قوميّته ولغته وعاداته وتراثه..

أخفقت عمليّة النّقل السّكّاني (الترانسفير) وبقي الشّعب العربيّ أبيًّا وعزيزًا وكريمًا في وطنه.

رغم الجوع والحرمان والبطش والمهانة والتّنكيل والتّرحيل بقي شعبنا صامدًا،

منتصبَ القامة ومرفوعَ الهامة.

 تآمر الاستعمار والرجعيّة العربيّة على شعبنا وانتصرت المقاومة الشّعبيّة الباسلة رغم انفهم.. لكن الوطن ما زال منقسمًا ومتشرذِمًا إلى "أوطان"..

بقيَ الأملُ..

بقي الفلّ والياسمين والزّهر والعِنّاب والتّين والزّيتون والخرّوب رغم همجيّتهم..

بقي النّورس مُحَلِّقًا في الجوِّ ومُعشِّشًا على الأغصان رغم رصاصهم..

بقيت المحبّة والمودّة رغم حقدهم وجسارتهم ولؤمهم..

رحل الغُزاة، وها هم أحفاد يوسف يكمّلون الطّريق ويُتابعون المسير والمسيرة يرسمون المصير المُزْهر لا محالة..

رحل العُثْمانيّون إلى غير رجعة وبقي الهواء والسّماء والبحر والصّخر والطّير والجبال والوديان والإنسان وبقيت الأوطان.

رحلوا وبقيْنا..

رحلوا وصمدنا..

رحلوا وبقي أهل البلد..

انقلعوا ولم يبقَ في الوادي غير حجارته، غير أهله..

 فليشربوا البحر..

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *