كرنفال المذبحة

مراسل حيفا نت | 27/03/2011

 أحمد حسين

 أمريكا تكره العرب مرتين. مرة لأنهم عرب، وإسرائيل تكره العرب. والمرة الثانية لأنه لم يحدث مرة واحدة، أن العرب أعطوها مبررا واحدا لذبحهم. كانوا دائما هادئين ومسالمين ومطيعين إلى درجة تثير القرف، مما كان يجبرها دائما على اختلاق المبررات بنفسها لذبحهم. وكان بإمكانها ذبحهم مجانا بدون أن يثيروا أي احتجاج يتجاوز البكاء، ولكن المشكلة كانت في اقتناص الفرص السياسية من جانب بعض الدول والقوي للتمظهر أخلاقيا على حسابها. فحينما أرادت ذبح الشعب العراقي اضطرت لتلفيق تهم موثقة أحادية الجانب، كلفتها بعض الحرج فيما بعد، أمام الذين صدقوا تلفيقاتها. ولذلك حينما قررت الإجهاز على العرب هذه المرة، كانت حريصة على التواري وراء كواليس شفافة مصنوعة كلها من نسيج متعدد الألوان يكاد يكون كرنفاليا.

        لم أكن أظن أن المذبحة يمكن أن تكون حقلا للإبداع بهذا القدر. وأن المؤامرة يمكن أن تتخفى وراء جماليات الرواية الملحمية بحبكة تبلغ حد الروعة. لقد نسج العقل التعبوي لأمريكا والغرب هذه المرة مشهدا للمصير العربي، استعيدت فيه كل عظمة البطولة والتراجيديا الإغريقية المتوسطية مع نبرات حداثية في الإخراج، جعلت الرموز أكثر إيحاء من الأساطير. هيلين وفارس وطروادة الفينيقة، والحصان الخشبي، رموز تتوارد إيحاءاتها على الذهن الأوروبي، لتعيده تعبويا إلى جوهريته، من خلال تداخل الكلاسيكية بالحداثة في مشهد العلاقة الأزلي بين الشرق والغرب، حيث التوق المتبادل في الجانبين نحو اقتحام الآخر. الغرب بديموقراطيته وبطولته وعقله المتفوق، والشرق بمزاجه الإستبدادي وميوله البهيمية ونفوره من الحرية وعدائه للآخر. طروادة الكنعانية أو فلسطين، وقرطاجنة الفينيقية أو ليبيا، تكرار لمشهد واحد مقيم في وجدان الذاكرة النفيسة للذهب الأصفر أو الأسود، حيث تهرع الديموقراطية والنبل والإنسان المتفوق، لا لتنقذ هيلين الأوروبية هذه المرة، وإنما لتنقذ الشعب الليبي والشعوب العربية من الإسبتداد وانتهاك حقوق الإنسان. هذه المرة أمريكا لا تحارب عن نفسها. تحارب عن التحرر والعدالة ودماء المدنيين العزل. أمريكا تحارب الشر! يعود أوذيس البطل الأوروبي التائه، أي أمريكا، إلى حضنه الأوروبي، ليحرره من الطامعين، ثم يعلن حربه على الإستبداد العالمي، ليعيد للحرية اعتبارها.

        يمكنك ألا تصدق ! فالقضية ليست في الصدق، وإنما في أصوات الإستغاثة الصادرة عن العرب، وهم يرجون من أمريكا وأوروبا أن تتدخل لإنقاذهم. ألقضية في دماء ولافتات وصراخ ودبابات وطائرات غير مرئية تقصف المدنيين، وشعب ليبي مذبوح على الشاشات، فكيف لا تصدق. وأخيرا، ماذا يهم أصلا أن تصدق أو لا تصدق، ما دامت الأمور تسير على ما يرام.

        الأمر يشبه كرنفالا أكثر مما يشبه حربا. أمامك مشهد من الصخب الحربي ولكنه، متوتر كأشعار أوفيد، مضحك كمفارقات أسخيلوس، دموي وبطولي كمآسي سوفوكليس. تجلس أمام كاميرا الذاكرة الثقافية الأوروبية، فترى صورة الأوليمب حيث يتقاتل الألهة حول مصائر البشر، ثم ترى أخيل وهو يسحل جثة هيكطور الطروادي حول أسوار طروادة، وفجأة تتخيل موحى دلفي حيث النبوءات المرعبة، والجمال الفاسق المقدس، يملآن قلوب الرواد بالهلع والبهجة، وجيوب الكاهنة بالمال. وعلى خشبة أسخيلس الماكر تظهر لك العنزة التي تمثل خنوع البشر لأضاليل سكان الأوليمب، مربوطة إلى مقدمة المسرح. وقبل أن ترتفع الستارة تتقدم السيقان المنشدة التي تفصل بين المشاهد، من مقدمة المسرح، ويبدأن النشيد. صف من السيقان الجميلة العارية لفتيات تختفي أنصافهن العلوية خلف ستارة المسرح. ثم يظهر لك أسخيلوس وهو يحيي العنزة ويقول: هل لديك اليوم ما تقولينه للجمهور؟ فيرتفع ثغاء العنزة، ويضحك الجمهور. ولكنك تجد نفسك في النهابة رغما عنك أمام أوديب الملك الأعمى، تقوده ابنته على مسرح سوفوكليس وهو يخاطبها قائلا: كل منا عذاب الآخر. ونحن معا واحد يرى ولا يرى. هذا هو الجحيم يا ابنتي ! وتنزل الستارة.

        هل ستنتهي الأمور هكذا؟ هذا ممكن قطعا. فكوكبنا مريض جدا، وسكان الأوليمب جماعة مجنونة من السحرة الذين يريدون تقليد الآلهة، فيمسرحون الكون بجدل الذات، ويحولون حركة التاريخ إلى مجون فاجر، ويعهرون وعي البشر بفوضى الغرائز، ويتلاعبون بمصائر البشر على هواهم. والعرب الأن هم ساحة الكرنفال الأمريكي.

        أثبت العرب حتى الأن، أنهم يخافون من الحرية أكثر مما يخافون من الموت. ويفضلون لعبة الأحصنة الخشبية، على عراء المسؤولية. قليل من الإستبداد لا يضر مقابل الراحة من قلق الحرية التامة. ولكن لعل ما يجري في ليبيا يغير رأيهم، ويدركون أن أمريكا هي موتهم، ثم يتذكرون قول شاعرهم القومي:

إذا لم يكن من الموت بد     فمن العجز أن تموت جبانا.

 

        حينما وصلت الأمور من السوء في مصر حد الغضب، غضب الشعب المصري وقدم إعجازا ثوريا نادر المثال. ولكنه بعد أن أسقط مبارك، تعلق بأول غصن مدته إليه الأيدي الخفية وهو الجيش، الذي قالت لها عنه " قناة الرفد المعنوي للثورة الشعبية "، أنه " حارس الثورة ". ومنذ ذلك الوقت والأمور تسيرعلى ما يرام، وعادت أمريكا تحكم مصر دستوريا، وبالتعدد الديموقراطي. ووقف الثوار وحدهم في ميدان التحرير أمام تحالف كل سكان الأحصنة الخشبية. لقد تبين أن الذين كانوا يريدون تحرر الشعب المصري من الرعوية لأمريكا وأحصنتها الخشبية هم فقط 23% من الشعب المصري. وقد تعمدت أمريكا أن تجري الإستفتاء على الدستور المصري المجدد، في ظل قصف الشعب الليبي بصواريخ كروز.

        وبقي الشعب التونسي وحيدا، أمام الجنرال راشد الغنوشي، وهو ينسق مع جنرالات الجزيرة وقطر، وعمرو موشي، " لثورة الشعب التونسي " على الغرار الليبي.

        ليبيا تحولت إلى ورشة لصناعة الخوف، بينما حول قسم منها إلى منجرة لتطوير صناعة الأحصنة الخشبية. يدير هذه الصناعة بإشراف قناة الجزيرة، عقيد مصري، ومفكر عربي، يعملان مؤقتا بالعشاء وحده، مع وعود بالترقية. ومن المفيد أن أذكر أنني سمعت، أن قناة الجزيرة عرضة الأن لتأنيب أمريكي، لأن كثيرا من الأحصنة الخشبية التي تشرف على صناعتها في ليبيا، أخذت تشبه الجحوش، وأحيانا، ألعجول الخشيبة أكثر من شبهها بالأحصنة. ولكن يبدو أن هذه الصناعة في طريقها للتحول نحو البعير الخشبي، كما يطالب مجلس التعاون الخليجي.

        كيف يمكن الحديث عن غرفة عمليات لمثل هذه الصناعة الطريفة بغير هذا الأسلوب؟ ومع ذلك فالقضية ليست هنا، كما اعتاد المفكر الخشبي أن يقول، ألقضية أنني لا أستطيع مزاجيا الآن، أن أخرج عن روح الكرنفالية التي تسود الملحمة المهزلة. المكافأة الموضوعية للأحداث تستدعي مأساوية أسخيلس الساخرة، أكثر مما تستدعي ميلودرامية سوفوكليس المتزمتة. أنا لست مفكرا. ووجود مفكرين عرب هو أسطورة ليبرالية. لأن المفكر العربي هو في معظم الحالات وغد ليبرالي. فلا أحد يقبل أن يكون وغدا سوى الليبرالي. والحديث عن أوغاد الفكر منطقه الموضوعي الوحيد هو السخرية. وعلى سبيل المثال رأيت وسمعت مفكرا ليبراليا يقول أن أمريكا لا تريد التدخل في ليبيا، ولكن التزامها بالمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، مقابل دموية القذفي، لا يسمح لها بالسكوت وهي ترى ما يفعله بشعبه. لمن يقول هذا الرجل هذا الكلام؟ لا بد أنه يقوله لنا ! أي أنه، إما يعتبرنا أوغادا، أو أنه وغد عديم الضمير. وبما أننا لسنا مفكرين، ولا ليبراليين، وبما أننا نعرف مثل كل العرب الآخرين، أن أمريكا تستخدم المواثيق الدولية وحقوق الإنسان كآلية مفضلة لذبح العرب، فإنه هو الوغد إذن. تصوروا أن نذبح على أساس هذه القيم المبجلة. أليس معنى هذا أن العرب يذبحون، ليس لآن أمريكا تريد ذلك، ولكن لآنهم يستحقون الذبح أخلاقيا؟ ثم ألا يقوم هذا الليبرالي بتبرير مذبحة العراق على ذات الأساس الأخلاقي، حينما احتلته أمريكا، راعية العدالة والإنسانية، تحت راية انتهاك صدام حسين للمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وقتلت أكثر من مليون مدني عراقي؟ أليس مؤدى ذلك في النهاية أن العربي ليس إنسانا، سواء كان حاكما أو محكوما، ظالما أو مظلوما؟ ما الذي أ ودى بالوطن الفلسطيني أرضا وشعبا وإنسانا، سوى المواثيق الدولية وحقوق الإنسان؟ كيف يكون أي فلسطيني إنسانا إذن، ومن ضمنهم المفكر الليبرالي؟

        لقد تجازت علاقة أمريكا بنا أية مبررات للسجال أو المرافعة. وحينما أعلنت أمريكا أنها لن تدخل الأرض الليبية كانت قد دخلتها، بمرتزقتها وخبرائها ومخابراتها وأحصنتها وجحوشها وعجولها، قبل أسابيع طويلة من تصريحها. ومع ذلك لا سجال كلاميا معها. لتفعل ما شاءت في ليبيا وغير ليبيا. والكرة الآن في ملعب الشعوب العربية، وستختار ما تريد. إما الحرية أو أمريكا. ومن حقها أن تختار. ألمهم أن ينتهي هذا الكرنفال العبثي والدموي لصالح أحد الفريقين.

        والتفاؤل ممنوع، والتشاؤم ممنوع. فالأمور واضحة وضوح الشمس، والقضية قضية خيار وليس قضية حظ. مستقبل قومي حر بالكامل من تدخل أمريكا في شؤونه، أو مستقبل بأحصنة وجحوش وعجول وأبعرة خشبية وفوقها أمريكا. فلتأت أمريكا إذن وبسرعة ! ودى بالشعب الفلسطيني أأأأأأاكي نن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *