حيفا في شعر محمود درويش
بقلم: عبير حيدر (السفير)
عاش الشاعر شطراً من حياته في حيفا تحت الإقامة الجبرية، فقوانين الدولة الإسرائيلية لم تعترف بأن محمود درويش هو ابن الأرض الذي تحول إلى لاجئ في وطنه، من دون هوية ومع ذلك ظل حاضراً بجسده بلا أوراق. وما بين 1967 و1970 كان ممنوعاً من مغادرة منزله، لاتهامه بالقيام بنشاط معاد لدولة «إسرائيل»، وكان عليه أن يثبت وجوده مرتين يومياً في مخفر الشرطة.
أدى محمود درويش دوراً ثقافياً رائداً في حيفا، فعمل محرراً في جريدة «الاتحاد»، وترأس تحرير مجلة «الجديد» التي حولها منبراً للأدب العربي والأدب العالمي اليساري والتقدمي. وأسهمت المجلة في كسر الحصار الثقافي الذي فُرِض على فلسطينيي الداخل، من خلال تعريفها بالمبدعين الفلسطينيين في المنافي كغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا…الخ. وتركت آثاراً في شبان الناصرة ويافا وحيفا، هزت وجدانهم وعروبتهم أمام التهديدات الإسرائيلية باقتلاعهم من أرضهم ومحو تاريخهم، وتهجير ما تبقى منهم في المثلث والجليل والكرمل. فحضور محمود درويش وقصائده الثورية التي كان يلقيها في المهرجانات وينشرها في الصحف العربية، ولّد حراكاً ثقافياً مميزاً في حيفا، ليس على مستوى الشعر وإنما المسرح والأغنية والأدب، وحولها مركزاً ثقافياً عربياً استقطبت شريحة كبيرة من المثقفين الفلسطينيين، وهذا ما دفع كثيراً من رفاق الشاعر وأصدقائه إلى لومه حين قرر مغادرة حيفا.
عاش محمود درويش في شارعي عباس والمتنبي في حيفا، ولم يكن هذا من قبيل المصادفة، فالشاعر آمن بأن عليه امتلاك المكان باللغة، كجزء أساسي ومكمل لإثبات حقه فيه، وفي علاقته العفوية بالأرض، والتي لا تحتاج إلى براهين. فكل شيء في المدينة كان يشي بمأساة اقتلاع الفلسطيني من الأرض والذاكرة، مع عدو يستخدم جميع أسلحته الثقافية والعسكرية في تغييب أسماء المدن العربية وإضفاء أسماء يهودية عليها. في كتابه «يوميات الحزن العادي» الذي كتبه في سنوات منفاه الأولى، نجد ملامح من سيرته الذاتية ومعاناته في الاعتقال والسجن، والإقامة الجبرية، وخيباته من عنصرية المجتمع الاسرائيلي، يقول: «فحتى شارع المتنبي حين تقرأ الإسم، لأول مرة، باللغة العبرية، فتجد أنه «المونت نفي» وليس المتنبي كما كنت تتصور». وفي مكان آخر، يتذكر الشاعر خيبته أمام رفض كثير من يهود حيفا تأجيره شقة، حين يكتشفون أنه عربي، يقول: «وتسألهم عمن بنى هذه البيوت. عندها ينصرفون عنك وينجبون مزيداً من الأطفال في بيوت مسروقة».
جسدَّ درويش المكان في شعره، كمكون أساسي من مكونات الهوية. وقلّما استخدم الرمز في شعره، حينما يتعرض للمكان. فحيفا حاضرة باسمها، ليبقيها حية في الوعي الفلسطيني. «وحيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة».
في ديوانه «الجدارية» حين كان الشاعر في مواجهة الموت، يصرخ: «أنا من هناك، ولا هناك سوى هنا». وحين ينصت لصوت قلبه، تعود حيفا إليه ببحرها وهوائها وأزقتها وشوراعها: «لم أُغيِّر غيرَ إيقاعي، لأسمع صوتَ قلبي واضحاً…للملحمييِّن النُسُورُ ولي أنا طَوقُ الحمامة، نَجمةٌ مهجورةٌ فوق السطوح، وشارعٌ يفضي إلى الميناء…هذا البحرُ لي.. هذا الهواءُ الرطبُ لي…».
وعلى الرغم من سنوات المنفى الطويلة، ظلت تجربة السجن والاعتقال في حيفا حية في ذاكرة الشاعر، والتي استعاد تفصيلاتها في كتابه «في حضرة الغياب»، وفيه نقرأ مكابدة درويش في السجن، ومحاولته التغلب على القطيعة مع الوقت باستحضار طفولته ورائحة قهوة أمه ومشهد الشجر والبحر، فالنهار يبدأ بوصول صحن حساء العدس: «حجم الأرض هنا متران مربعان لهما باب حديدي دائم الإغلاق. أصوات أحذية غليظة تحمل إليك حساء العدس المطبوخ بالسوس، فتدرك أن نهاراً جديداً قد حلّ ضيفاً على العالم. لكنك لا تحصي الأيّام، فلا خرز في زنزانتك ولا حصى للتقويم الجديد».
محنة الخروج
لم يكن قرار محمود درويش الخروج من حيفا سهلاً، وظل الحنين إليها يراوده، ففي إحدى رسائله الى صديقه سميح القاسم، يسأله أن يكون جسره الى الداخل: «عوضني عن غيابٍ لأفرح: مادمت هناك أنا هناك». فمأساة الشاعر الحقيقية بدأت في المنفى، مأساة الغربة والرحيل والانتظار. في حيفا كان التناقض أحادياً مع عدو صريح. أما في المنفى، ولاسيما في بيروت، اكتشف الشاعر تراجيديا الشتات الفلسطيني، وكان شاهداً على الفقر في المخيمات والحصار والقهر والذل، وشاهداً على المجازر والمذابح واغتيال الأصدقاء، شاهداً على صمود الفلسطيني ونضاله وتشبثه بحلم العودة أيضاً «مُخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين». وفي المنفى، تعمقت تجربته الشعرية، وحصل التحول من قصائد الأرض المحتلة البسيطة والمباشرة، إلى قصائد الشتات التي مالت لأن تصبح مركبة وأكثر كثافة واختزالا، وذات نفس ملحمي. في ملحمة «أحمد الزعتر» التي تصور بطولة الفلسطيني وعذابه وصموده في بحثه الدائم عن الهوية، تعود حيفا لتكون بداية الحلم ونهايته، يقول: «وحيفا من هنا بدأت وأحمد سلم الكرمل وبسملة الندى والزعتر البلدي والمنزل، لا تسرقوه من السنونو، لا تأخذوه من الندى». وهنا تمتزج الحكاية الشخصية للشاعر بالحكاية الجماعية الفلسطينية، فالفلسطيني عائد إلى حيفا: «وأحمد العربي يصعد كي يرى حيفا .. ويقفز».
إشكالية خروجه من حيفا ظلت تراود الشاعر في منفاه، ففي ديوانه «في حضرة الغياب» يتذكر حين كان محاصراً في بيروت، ورفاقه يستعدون للرحيل في السُفُن إلى مصير مجهول، يواجه نفسه بهذا السؤال: « فأشحتَ بوجهك عني وابتعدت وغبت، وأصغيتَ إلى صوتٍ فيك يناديك ويرميك بوَخزِ الإبر، كلما وصلتَ إلى مفترق أو منحدر: لماذا … لماذا نزلتُ عن جبل الكرمل؟. وفي مكان آخر يحاول الإجابة: «وقلت: ابتعدت قليلاً لأقترب، فقالوا: هذه هي طريقة النادم في الكلام. فهل ندمتَ حقاً على هذا السفر؟ قلت: لا أعرف ما دمت في أول الطريق».
ولا جواب واضحاً لدى الشاعر فهو يقول: « فماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلت عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلَّم المشي على طريق لا أعرفها». ويبقى جواب الشاعر حائراً أمام عبثية الحياة ورحلة الإنسان المحكوم عليه بالموت: «وعلى الطريق الساحلي تساءلت: وماذا لو بقيتُ في حيفا؟ ماذا لو بقيت في أيّ مكان؟ ماذا لو كنت؟ ماذا لو لم أكن. تتحاشى الوصول إلى الخلاصة: باطل الأباطيل، والكل باطل. فجأة يسقط مطر خفيف يبلل روحك».
بعد قرابة أربعة عقود من الغياب، عاد الشاعر إلى حيفا، وأحيا أمسية شعرية واحدة، ضمت أكثر من ألفي شخص. أعادت هذه الأمسية حيفا مدينة فلسطينية، وأعادت الشاعر إلى فلسطينه. يقول محمود درويش: «حتى أعود بعد 37 عاماً. هذا يعني أنني لم أنزل من الكرمل في 1970 ولم أعد في 2007 كل شيء هو مجاز. أنا الآن في رام الله وفي الأسبوع القادم سأكون في الكرمل، وأتذكر أنني لم أكن هناك لأربعين عاماً، فهذا يعني أن الدائرة أغلقت، وكل السفر الذي طال سنوات كان مجازاً».
دواوين محمود درويش الشعرية الأولى كتبها في مدينة إلى حيفا هي: «أوراق الزيتون» (1964)، «عاشق من فلسطين» (1966)، «آخر الليل» (1967)، «يوميات جرح فلسطيني» (1969)، «العصافير تموت في الجليل» (1969)، «حبيبتي تنهض من نومها» (1970).