البهائيّون في حيفا
قبّة عباس وجانب من مدينة حيفا المطلة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط
يزدان جبل الكرمل ومدينة حيفا بمعبد للبهائيين، بقبته الذهبية الخلابة وحدائقه المعلقة، ليصبح بتاريخ 8.7.2008، من روائع الثراث الإنساني بشهادة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو). ولا غرو أن أطلق عليه “عروس الكرمل” أو “ملكة الكرمل”. فمن هم البهائيون؟ كيف وصلوا إلى حيفا؟ وما قصة هذا المعبد؟
نشوء الديانة البهائية:
البهائية، هي ديانة موحِّدة حديثة نسبيًا مقارنة بباقي الديانات الموحِّدة، تعود جذورها إلى عام 1844م، عنما أعلن تاجر شاب اسمه سيد علي بن محمد رضا الشيرازي، من مدينة شيراز (فارس)، بأنه صاحب رسالة إلهيَّة، مقدَّر لها أن تحوِّل الحياة الروحيَّة للجنس البشري وتحييها من جديد. فاتَّخذ لنفسه لقب “الباب”، لأن مجيئه-حسب رأيه- ما هو إلا مدخلا تعْبره الإنسانيّة نحو ذلك الظهور الإلهي أي ظهور “صاحب الزمان” (رسول ثانٍ يبعثه الله). وأن ظهوره الوشيك، يكون أعظم شأنًا من حضرة “الباب” نفسه. من هنا فإن طريق هذه الديانة الجديدة، التي خرجت من رحم الإسلام الشيعي في فارس، واشتهرت بالتسمية “البهائية”، نسبة إلى هذا الرسول الموْحى إليه ويدعى “بهاء الله”، قد افترقت عن الإسلام السنِّي الذي يؤمن بما نصَّ عليه القرآن الكريم: أن الرسول محمد (ص) هو خاتَم الأنبياء والمرسلين (أنظر سورة الأحزاب، آية ٤٠). لذا، اعتبرت فرقة خارجة عن الإسلام. وعليه تعرَّض “الباب” وأتباعه إلى الإضطهاد والملاحقة، وفي التاسع من تموز عام 1850، أُعدِم رميًا بالرصاص في مدينة تبريز . وفي فترة يسيرة أُعدم لا يقل عن عشرين ألفًا من أتباعه بمجازر فظيعة.
كان حضرة “الباب” قد أطلق دعوة الإصلاح الخُلقي والروحاني في المجتمع الفارسي، ورفع المستوى الإجتماعي للمرأة وتحسين أوضاع الفقراء والمعوزين، فكثر أتباعه من أبرزهم ميرزا حسين علي النوري، الذي اتّخذفي جمع من أتباع “الباب”، سنة 1848م، لقب “البهاء” وأصبح يُعرف ب “بهاء الله”. وفي عام 1863، أعلن عن نفسه بأنه الرسول الثاني الذي أشار إليه حضرة “الباب”. وكان من بين ثمانية عشر تابعًا آمنوا بدعوة “الباب”، لذا، عرفوا ب”حروف الحي”.
استمرت حكومة الأسرة القاجارية في فارس، ملاحقة واضطهاد أتباع “الباب”، فسجنت بهاء الله، وال1ي يعتبر المؤسس الحقيقي للديانة البهائية، ثم نفته وعائلته إلى بغداد، ثم نقلته السلطات العثمانية إلى استانبول، ثم أدرنة، ثم انتهى به المطاف عام 1868، بعد ست سنوات من التنقل في المنفى، إلى عكا لتصبح منفاه الأخير.
حضرة بهاء الله
سجن بهاء الله في قلعة عكا، وبعد أن أطلق سراحه عام 1877م، أقام في “المزرعة”، شمال شرق عكا وبعد أن أمضى سنتين في المزرعة انتقل ليستقر في قصر يدعى “البهجة”استأجره من صاحبه عوده خمّار، شمال عكا، حيث مكث فيه حتى وفاته عام 1892م. فتولى ابنه عباس أفندي الملقب ب”عبد البهاء”، ليخلفه في زعامة البهائيين حسب وصية والده. وقد عيّنه، في الوقت نفسه، المفسر الوحيد لتعاليمه.
يعود الفضل إلى “عبدالبهاء”، في نقل رسالة الدين البهائي إلى أقطار العالم في سلسة رحلات عبر أوروبا وأمريكا الشمالية. مؤكدًا أن “المحبّة هي الناموس الأعظم والسبب الأكبر لتمدن الإنسانية.
حضرة عبد البهاء
ومع وفاة حضرة “عبدالبهاء” عام 1921، تحولت القيادة إلى مسؤولية نظام إداري قائم على أساسين “ولاية الأمر وبيت العدل الأعظم”. فكان حفيده البكر؛ شوقي أفندي “ولي أمر الدين ورئيس مقدس لبيت العدل الأعظم”.
كان شوقي أفندي المبين الوحيد لتعاليم البهائية، وهو الذي شيد أركان نظامه الإداري، ونفذ مشاريع عالمية لتوسيع نطاق لجامعة البهائية وانتشارها في العالم، وهي تعد اليوم ما بين ستة ملايين إلى ثمانية ملايين منتشرين في 247 دولة ومقاطعة في العالم. زد على ذلك، يعود الفضل له بترجمة عد مجلدات حوت الآثار الإلهيَة المقدسة المكتوبة بالعربية والفارسية إلى الإنكليزية. وبفضل نشاطه الدؤوب بين أعوام 1953 إلى 1963، اتسع عدد المحافل الروحانية المركزية في العالم إلى ستة وخمسين محفلا. وبغية نشر أفكار الديانة البهائية، أرسل “المتطوعين”، الذين عرفوا ب”المهاجرين”، إلى مناطق حتى النائية منها. أما ما نشاهده اليوم من المباني الرئيسية، إضافة إلى “القبة الذهبية”، فيعود الفضل فيها إلى عهد شوقي أفندي الذي انتهى بوفاته عام 1957م.

أسس العقيدة البهائية:
البهائية، هي ديانة موحدة، كاليهودية، والمسيحية والإسلام، وتستند إلى الإيمان بثلاثة أنواع من الوحدة: وحدة الخالق، وحدة الديانات في أصلها ومنبعها واهدافها.؛ ووحدة الجنس البشري.
وتسعى إلى تحقيق نظام عالمي جديد يسوده السلام العام وتنصهر فيه أمم العالم وشعوبه في اتحاد يضمن لجميع أفراد الجنس البشري العدل والرفاهي والإستقرار مبني على المحبة، والعدل والسلام بين جميع البشر، وتحترم انبياء في الديانات الموحدة. كما تدعو إلى القضاء على الفقر والعوز وإزالة الهو َّة بين الأغنياء والفقراء. ثم التخلي عن التعصب والخرافات. ون أهم المبادئ التي ينادي فيها مبدأ المساواة في الحقوق بين البشر بما في ذلك المساواة بين الرجل والمرأة.
قدسية حيفا في نظر البهائيين:
- المعبد البهائي (قبِّة عباس)
اكتسبت مدينة حيفا قدسية خاصة لدى أبناء الديانة البهائية، والتي تأتي بالمرتبة الثانية بعد “البهجة”، لاحتوائها على ضريح “بهاء الله”، لاحتوائها على المركز الروحاني الأعلى للبهائيين، ويعتبر بهاء الله المسؤول الأول على اختيار مكانه، ففي إحدى زياراته إلى حيفا عام 1891، قبيل وفاته عبّر لابنه “بهاء الله” عن أمنيته بإقامة مركز روحي للبهائيين على منحدر جبل الكرمل في الجهة الشمالية منه المشيرة إلى عكا حيث “البهجة”. وفي عام 1949، وضع حجر الأساس لمعبد “الباب” وأنجز تشييده عام 1953م. تكلله قبة مطلية بالذهب اشتهرت بتسميتها ب”قبة عباس”. نسبة إلى عبدالبهاء. وقد شيّد هذا المعبد على “فستقية” مؤلفة من ست غرف حوت غرفتان منها رفات “الباب” وجثمان “بهاء الله”، الذي توفي في تشرين الثاني عام 1921. من هنا اكتسبت مدينة حيفا قدسيتها بين أبناء الديانة البهائية، لاحتوائها على رفات “الباب”، المبشر بالديانة البهائية، وضريح “عبدالبهاء” (حضرة عباس أفندي)، لهذا اشتهر هذا المعبد بين الجمهور لاسيما سكان وفلسطين عامة ب”قبة عباس”. (أنظر الصورة السابقة).
أخيرًا، باشر البهائيون عملية تجديد قبّة عباس بإعاد بناء القبة الذهبية وترميم الضريح بأكمله، فاستغرق هذا العمل سنتين ونصف، وعمل به ان اكثر من مائة حرفيٍّ من أصحاب الخبرة من شتى انحاء العالم شاركوا في أعمال التجديد، إضافة الى ما لا يقلّ عن مائة متطوع من اتباع الطائفة جاؤوا من افريقيا واستراليا وأميركا الشمالية وأوروبا وآسيا. وتكلفت عملية التجديد والترميم حوالى ستة ملايين دولار. وأزيل الستار عن القبة المرممة في شهر نيسان من العام الماضي (2011).
- الحدائق المعلقة:
يقع معبد البهائيين في مركز منحدر جبل الكرمل من الجهة الشمالية منه، حيث المعبد يتوسط الحدائق المعلقة ذات المنظر الخلاب على شكل نصف دائرة، أما عدده ثماني عشرة حديقة، تسع منها شمال المعبد وتسع أخري جنوبه،حتى تصل الباب الرئيسي الجنوبي المطلّ على دوار اليونسكو، الذي دُشِّن مؤخرًا تعبيرًا واعترافًا للخطوة التي اتخذتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو على المكان من روائع التراث الإنساني (كما أشرنا سابقا). أما العدد الثماني عشرة حديقة، فتخليد للثمانية عشر من التابعين الأولين ل”لباب”، الذين أطلق عليهم لقب “حيّ” وتعني الحياة. وقد عرفوا ب”حروف الحي”. أما المباني الأخرى الهامة الواقعة في محيط المعبد، فنجملها بما يلي:
3.بيت العدل الأعظم”:
بني عام 1983، وهو مقر المؤسسة العليا للبهائيين. ويمثل “بيت العدل الأعظم” تطورا في الإدًارة لدى البهائيين؛ إذ كان “عبدالبهاء”، قد عين حفيده البكر حضرة شوقي أفندي وليَا للأمر بعده، وأشار إلى إقامة “بيت العدل الأعظم”، وحدّدت مهام ولاية الأمر (حضرة شوقي أفندي) بهدف تبيين وشرح الآيات المقدسة للديانة البهائية شرحًا صادقًا، أمينًا، منزهًا، معصومًا عن الخطأ والضلال، لتستمر بذلك الهداية الإلهيَّة. أمَّا “بيت العدل لأعظم”، الذي سعى شوقي أفندي إلى تأسيسه بناء على وصية “عبد اليهاء”، فقد أقيم عام 1963، وتألف من تسعة أعضاء منتخبين لمدة خمس سنوات، تختارهم لجنة من كافة أعضاء المجامع البهائية في العالم. ولهذا المجلس سلطات تشريعيَّة وقضائيَّة، وتشريعاته معصومة عن الخطأ. (أنظر صورة مقر ه)
- الأرشيف العالمي:
تمّ بناؤه عام 1957، وحاكى في بنائه، شكل المعبد اليوناني البرثنون في الأكروبوليس (أثينا)
5.مركز الكتابات المقدسة:
بني عام 1999، وفيه تتم عملية دراسة وترجمة الكتابات المقدسة البهائية
- مركز المستشارين العالميين:
مهامه هي: متابعة وتنسيق عمل المستشارين التسعة في حيفا والواحد والثمانين المستشارين في أنحاء العالم. ويعين بيت العدل الأعظم هؤلاء المستشارين التسعة لمدة خمس سنوات.
بالإضافة إلى هذه المباني الرئيسية التي يحويها مجمع البهائيين على منحدر جبل الكرمل، هناك شبكة من المباني المقامة تحدت الأرض تشمل: مكاتب، مطاعم، خزينة المال، وخمسة ملاجئ، وقاعة تتسع ل 400 مقعدٍ.
اخيرًا، نود أن نختم حديثنا هذا، بالقول: إن أبناء الطائفة البهائية الذين يعيشون في اسرائيل يترواح عددهم بين سبعمائة وألف، غالبيتهم يسكن في حيفا (95%) وقلة في عكا، قدموا إليها من دول العالم حيث التجمعات البهائيّة، وهم يتولون شؤون مراكزهم الروحية والإدارية، فهم ليسوا من مواطني اسرائيل، ولا يحملون الجنسية الإسرائيليّة، بل يُمنحون حقّ الإقامة لفترات زمنيّة مختلفة.
إن حضور البهائيين، في حيفا، يتمحور حول شؤون معبدهم، ويكاد يكون معدومًا في المجتمع الحيفاوي لاسيما العرب الفلسطينيين، الذي يعمل قسم منهم كعمال صيانة سواء في المباني والحدائق، أو في المساكن التي ابتاعتها الطائفة في محيط مدينة حيفا والقريبة من المعبد، ليأوي إليها أبناء الطائفة الزائرين أو المحتفلين في مناسبات تقيمها الطائفة في حيفا، ناهيك عن المواقف السياسية، إذ تحظر ديانتهم عليهم المشاركة في هذا المجال، لأن أحد أهدافها هو تحقيق “السلام والمحبَّة” بين أبناء الجنس البشري، على اختلاف نحلهم ومللهم.
بقلم: د. عطا لله سعيد قبطي




