أسكندرعمل
في العام 1831 بدأت مصر التي كان يحكمها محمد علي باشا بحملة عسكرية على سوريا بقيادة ابنه ابراهيم باشا لأسباب عديدة أهمها أنّ كثيراً من الفلاحين قد فدحتهم أعباء السّخرة والضّرائب الّتي فرضها محمد علي،فهربوا الى الأقطار السّوريّة فراراً من الخدمة العسكريّة الّتي فرضها عليهم فرضاً،فطلب محمد علي من عبدالله باشا والي صيدا ارجاعهم فرفض وكان هذا السّبب المباشر في بدء الحملة.كانت هناك أسباب عديدة غير مباشرة للحملة منها أنّ حرب المورة أظهرت ضعف الجيش العثماني وتفوق الجيش المصري،ومطامع محمد علي في وراثة الأمبراطوريّة العثمانيّة،وادعاء محمد علي أن سوريا مهمة استراتيجياً لمصر اذ أن كل هجوم حدث في التاريخ كان من جهة مصر،واستغلال موارد سوريا الطّبيعيّة فقد كان محتاجاً لأخشاب لبنان مثلاً لصناعة اسطوله،وتحريض بشير الشّهابي كبير أمراء لبنان الذي عزلته السلطة العثمانية في مرحلة ما وتشفّع له محمد علي فعاد الى ولايته ،ولكنّه حفظ الجميل وشجّع محمد علي على القيام بالحملة،وهناك أسباب أخرى لا مجال لذكرها.
اشترك في الحملة ثلاثون ألف جندي مجهّزين بأربعين مدفعاً،واشترك الأسطول المصري بنقل جزء من الجيش وحملت سفن الأسطول المدافع والذّخيرة والمؤن.احتلت الحملة غزّة ويافا وحيفا الّتي سبق احتلاله لها تعاون مع عدد من أعيانها وذلك لظلم عبدالله باشا،ونقل أحدهم معلومات عن تحصينات عكا ودمشق،وبعد احتلاله حيفا عيّن هؤلاء في مناصب أثناء الحكم المصري لها،مثل عبدالله بك الصّلاح الّذي عيّنه متسلّم حيفا ،وأعاد التزام عتليت وحيفا لمسعود الماضي.
أصبحت حيفا قاعدة لقوّات ابراهيم باشا واستقر فيها آلاف الجنود الفرنسيّين الّذين تناوبوا حصار عكا اذ طال حصارها سبعة أشهر،وكانت القيادة العامّة للجيش المصري في حيفا،واتّخذت مركزاً لها بناية على جبل الكرمل قرب دير الرّهبان الكرمليّين كان قد بناها عبدالله باشا كمصيف له،وبقيت حيفا مركزاً للقيادة العامة حتى نهاية الحكم المصري ،وكان ابراهيم باشا يزور المدينة على فترات متقاربة ويجتمع مع كبار حكامه وقادته هناك.
رمّم ابراهيم باشا اسوار حيفا الّتى تضرّرت أثناء احتلاله لها وزوِّدت القلعة من جديد بالمدافع ووُضِعت المدافع على أسوارها.كذلك تركّز الأسطول العثماني الّذي شارك في حصار عكا وقصفها من البحر في ميناء حيفا ،وكان خط التّوين الرّئيسي للجيش المصري فيها.بجانب القيادة العامّة للجيش المصري ،على جبل الكرمل،أُقيم مستشفيان عسكريّان أحدهما للجنود الجرحى ذوي الجراح البليغة والآخر للجرحى والمرضى الّذين يعانون من جراح وأمراض بسيطة أو سطحيّة.
كانت فترة الحكم المصري في حيفا رغم قصرها (1831 -1839 ) فترة مهمّة لتطوّر المدينة، وأحد الدّلائل على ازدهارها وازدياد أهميّتها أنّه لم يستقر فيها من قبل أي قنصل لدولة أجنبيّة ،أمّا في هذه الفترة فاستقرّ فيها ممثلون قنصليون لانجلترا وفرنسا والنّمسا والدّنمراك وسردينيا(أكبر الدّويلات الايطاليّة قبل التّوحيد).وهذا يدل على ارتفاع أهمّيّة حيفا على حساب عكا،لأن الممثلين القنصليّين كانوا يمثّلون مصالح بلادهم الاقتصاديّة في الأساس.وانتقلت اليها عائلات تجاريّة معروفة من عكا مثل عائلة الصّيقلي وبنت هذه العائلات البنايات الفخمة الّتي لم تشهدها حيفا من قبل، وقد أدار شؤون حيفا في هذه الفترة "حاكم حيفا وشاطئ عتليت" وكانت "السّرايا" مقر حكمه .
ساد الأمن في حيفا تحت الحكم المصري ،حتى في الفترة التي اشتعلت فيها الثورات ضده(اندلعت ثورات ضد الحكم المصري في السنوات الأخيرة بسبب فرض الضّرائب العالية وأمر السّوريّين بتسليم أسلحتهم وتحريض العثمانيّين ضد الحكم المصري)،ولجأ اليها سكان من المناطق التي انتشرت فيها الثورة.
حلّت بحيفا في هذه الفترة كارثتان طبيعيّتان أولاهما عام 1833 حين هطلت في حيفا أمطار غزيرة متواصلة لمدة أسبوعين وتدفّقت السّيول من أعالي الكرمل الى المدينة حتّى أصبحت المدينة كأنّها بحيرة كبيرة ،وسبّبت المياه التدفقة أضراراً جسيمة في الممتلكات وأيضاً بالأرواح،وحسب الرّحالة سكنير الّذي يستشهد به الكس كرمل في كتابه "تاريخ حيفا زمن الأتراك"،أنّه لم يصمد أمام المياه سوى بيت قنصل سردينيا ودير الكرمليّين.(رغم تطور وسائل تصريف المياه لا تزال حيفا البلد تُغمر بالماء اذا توالى سقوط المطر لعدة أيّام) أمّا الكارثة الطّبيعيّة الثّانيّة فكانت الهزّة الأرضيّة الّتي اجتاحت البلاد في الأول من كانون الثّاني 1837 ،لكن الخسائر في حيفا كانت طفيفة .
كانت علاقة ابراهيم باشا بالمسيحيّين جيّدة لتعاونهم معه قبل الاحتلال وبعده،وكان لتواجد القناصل الأوربيّين في المدينة تأثير كبير على حماية المسيحيّين وتحسين ظروفهم.كافأ ابراهيم باشا بشير الشّهابي الثّاني وعيّنه متسلماً على مدن سوريا من اللاذقيّة حتى حيفا،كذلك منطقة الناصرة وصفد،ألغى الضرائب الّتي كان يدفعها الرهبان الكرمليّون وأمر باعادة ما أُخِذ منهم من أموال وأبقار،وسمح لهم باتمام بناء الدّير،وقد أمّنت عملية بناء الدّير العمل لعشرات العائلات المسيحيّة لأكثر من عشرين عاماً، وأهداهم بيت عبدالله باشا الصّيفي الّذي يجاور الدّير عام 1834 .كذلك سمح للمسيحيّين الأُرثوذكس ببناء كنيسة لهم في نفس العام.