بقلم: نايف خوري
سيدي ومعلمي، اسمح لي أيها العلامة المعلم أن أدعوك سيدي ومعلمي، فإنك المطران السيد، والمعلم المعلم، خاصة بعد أن قرأتُ كتابك الأخير "من وحي الأحداث" والذي صدر في مطلع 2011. إن هذا الكتاب هو مواكبة حثيثة للأحداث التي وقعتْ، وكمسؤول تأثرتَ بها إن كان عن قريب أو بعيد، وجعلتَ من نفسك ذاك الميزان الذي يفصل بين الأحداث ومدى وقعها وتأثيرها على الإنسان عامة والمسؤول خاصة. فكيف يمكن حتى للإنسان العادي أن يقف إزاءها مكتوف اليدين؟ ولذا جاء ميزانك لتقول كلمة حق وإنصاف للإنسانية والمجتمع بأن يتصدى ويمانع ويرفض ما تقترفه أيدي الجناة من إثم وجريمة، لأن أفعالهم المشينة لن تمر مرورًا عاديًا، فهنا من يراها، ويرقبها، ويشجبها، ويندد بها.
سيدي ومعلمي، في خضم الأحداث التي تقع، والتي تسيء للمجتمع أو أفراده ترى نفسك مُنبريًا لترفع صوت العدالة ضد الظلم، ضد الإجحاف، ضد التمييز وضد الخطيئة وأعمال الشر. ولا تشير إلى وقوعها فحسب، بل تقول ما وجه الظلم والجريمة الواقعة هنا، ولا تكتفي بذلك، بل تنطلق إلى أبعد، بحيث تقول مباشرة أو تدع القارئ يستنتج بفكره وذهنه كيف تريد لهذا الشر أن يزول، وما هو الوجه الصحيح لهذه القضية أو تلك المشكلة، أو هذه المعضلة أو تلك الأزمة. ألا يدل هذا، وبالتأكيد، على مدى حرصك على هذا المجتمع الذي تعيش في كنفه؟ ألا يشير إلى تبوؤك مركز الصدارة والقيادة لهذا المجتمع؟ وتورد في كتابك هذا تلك المواضيع التي رغبت بالإشارة إليها بصورة مميزة، مثل: الثورة ضد من قتل أرواح الأبرياء في العراق، في مصر، في كل مكان. لا لأنهم مسيحيون ولا لأنك غيور على مسيحييك فحسب، بل لأنك تتعالى نحو إنسانية المعلم، وترفض إزهاق الأرواح. وتكتب عن أحوال الدنيا التي تراها وتعايشها، وتورد مقالة عن الأفلاك، وكيف تُعد الرزنامة السنوية التي حملت اسمك، وما هو الانتقال بين عام وعام، وتتساءل في رسالة خاصة إلى المعيدين وإلى المفاوضين، كيف يكون على الأرض السلام.. فهل من سلام؟ وتتطرق إلى الأعياد المسيحية والإسلامية والمشترك بينهما، وتتحدث عن وفاة شيخ الأزهر، ذاك الجليل الذي عرفتَه عن كثب، وتعرب عن الخشية من الاحتباس السياسي والاحتباس الحراري، ويبهرك التعلق بتداعيات المونديال، وتتحسر على وقوع أحداث هامة في هذا العالم، وما أحوجنا إلى من يقوم بدور الأنبياء لمواجهتها، وتقول مجازًا: لو عاد مار إلياس، وأخيرًا تتساءل، ربي.. مسيحي أين أنت؟ وغيرها من المواضيع التي لو انفردتَ بكل منها على حدة لألّفتَ عنها كتابًا كاملاً.
سيدي ومعلمي، إن مواكبتك للأحداث وتطرقك للمواضيع التي تمتُّ إليها بصلة، بشكل أو بآخر، إن كان في بلادنا أو في العالم الواسع، تزيد من الرفعة رفعةً والمكانة المرموقة التي تحتلها أكثر شموخًا، وتجعلك محط الأنظار على الدوام، فتصبح منارة يستدل بها الجميع، ويستنيرون بهديها، وتبقى أنت المعلم الذي يسترشدون بإرشاده، ويقدم النصيحة لكل من يطلبها أو يسأل عنها، ويقود إلى أعمال الخير التي تفيد المجتمع والإنسان، وتصبح أنت تلك الشجرة، شجرة الزيتون التي تحبها وتقدرها، والتي يتفيأ الجميع بظلها، وتعشش طيور السلام في أعبابها، وتفرز من ثمرها طعامًا وغذاء روحيًا بكل ثقة وجرأة ومعرفة وإلمام.
سيدي ومعلمي، كفى، كفى أن تكون راصدًا، كفى أن تواكب فقط، كفى أن تصبح معلقًا فحسب، كفى أن توجه نداءاتك إلى هذه الهيئة أو تلك، إلى هذه الجماعة أو تلك، إلى هذه الفئة أو تلك، وينطلق نداؤك كما في صحراء، أو يصبح صوتك صوت صارخ في البرية.. لكني أريدك، سيدي، معلمًا، عالمًا، مُنظرًا، مؤلفًا، كاتبًا، معبرًا عن مواقف يتعظ بها الجميع ويعملون بها.. أنت المعلم العلامة الذي يجيد الكتابة ويتقنها، يجيد الوعظ فيبرع فيه، يجيد التنظير فيبلوره، يتقن صنعة التفكير، ويهدي إلى الصراط المستقيم. أنت المفكر الذي ينبغي أن يتدارسوا أفكاره، أنت المعلم الذي يجب أن يتعلموا من علمه، أنت المربي الذي يجب أن يعرض أساليبه التربوية على الملأ، أنت رجل المجتمع الذي تجتمع فيه محبة الجميع، أنت الصدر الرحب الذي يتسع لهموم الناس فيرشدهم إلى الحلول، أنت الكتف التي يستند عليها كل محتاج ليجدها خير متكأ، فلا غرو من مطلبي بأن تحول كتاباتك ومؤلفاتك إلى الإبداع لأنك مبدع. وها هم أصحاب النظريات الفكرية، والفلسفية والتربوية، والدينية، والتاريخية، والاجتماعية وغيرها من مشارق الدنيا ومغاربها يدونون أفكارهم ونظرياتهم وتعاليمهم في مؤلفات طبقت شهرتها الآفاق. وأنت سيدي ومعلمي أسوة بالعظماء، لأنك لا تقل أبدًا عن أي عظيم. فأنت حملت المسيح في قلبك وعشت معه واتبعت دربه، وأرشدتني إلى واقعي مع يسوع، وقلت أن هذا المسيح، وهذه المريم قد عاشا هنا مثلما نعيش، مكثا هنا، تنشقا من ذات الهواء، وشربا من ذات النبع، وسارا على ذات التراب، وجالا في ذات الدروب، وزارا ذات المواقع التي نحيا فيها، ونبهتنا إلى هذا التراب المقدس، والأرض الطيبة، والهواء والماء، وقلت تقدسوا أنتم أيضًا يا أبناء شعبي، واحترموا هذه القداسة.. فما أعظم شأنك وشأن خالقك.. فإليك محبتي، إليك احترامي، وإلى يسوع ومريم اللذين كرّستَ لهما شخصك، وفكرك، فأنت سيدي ومعلمي.. وإلى سنين كثيرة يا سيد.