صلاة من أجل السلام لغبطة البطريرك ميشيل صباح

مراسل حيفا نت | 12/01/2009

 

نص الصلاة التي رفعها إلى العلي القدير غبطة البطريرك ميشيل صباح، بطريرك اللاتين في القدس (المتقاعد) يوم الأحد الموافق 11 كانون ثاني 2009 خلال صلاة خاصة من أجل السلام وذلك في كنيسة الموارنة في الناصرة 

  اجتمعنا اليوم أيضًا لنصلي. صلَّيْنا في القدس. وفي كلّ مكان صلّى المؤمنون. واليوم نصلّي هنا في الناصرة، مع جميع الذين يصلُّون في أرضنا هذه، ومع جميع القلوب المنكسرة في غزة، ومع من يصلّي في العالم كلّه معنا ومن أجلنا، صلاةَ سلام وعدل وحياة.

لنضع أنفسنا أمام حضرته تعالى، ولنضع أمرنا كلَّه بين يديه. لنضع أمامه ما يحصل في غزة من ضياع ورعب وآلام وجوع وتشريد وموت ودمار.

استمعنا في صلاتنا قبل قليل إلى صاحب المزامير يقول: "الرَّحمَةُ والحَقُّ تلاقيَا، والعَدلُ والسَّلامُ تعانَقا. الحَقُّ مِنَ الأرضِ يَنبُتُ، والعَدلُ مِنَ السَّماءِ يُشرِفُ. الرّبُّ يَهَبُ الخَيرَ، وأرضُنا تُعطي غِلالَها. العَدلُ يسيرُ أمامَهُ ويُمَهِّدُ سبـيلاً لِخُطواتِهِ‌" (مزمور ٨٤/٨٥:١١-١٤).

لنتأمّل قليلا في هذه الآيات من المزامير:

"الحق والرحمة تلاقيا"، الحق للذات يسير مع الرحمة للغير، والرحمة للغير هي الحق نفسه الذي أطلبه لنفسي فأطلبه لغيري. – والسلام عدل ومساواة بين الخصوم مهما تخاصما، حينئذ تَصِحّ كلمة المزمور "العدل والسلام تعانقا". – "والحق من الأرض ينبت"، حيث زرعه الله، في قلب وضمير كل إنسان، ليكتشفه كل إنسان ويعمل به، فيشرق العدل من السماء ويسود الأرض إذا ما الإنسان نفسه التزم العدل. ويقول المزمور أيضًا: "الرب يَهَبُ الخير". وأما شرور أرضنا فمن أهلها. لأنّ العدل لا يسير أمام حكّامنا ولا يمهّد سبيلا لخطواتهم.

 

٢      كلّنا نعلم ونقرأ ونسمع ونشاهد ما يحصل في غزة. وكلّنا نعيش معهم المعاناة.

وأمام الدمار الذي نراه نقول إنّ القضية ليست قضية إسرائيل وحماس. بل القضية هي حرية الشعب الفلسطيني ووجوده: أيجوز له أن يوجد وأن يتوحد أم لا؟ يقال إن ما يحصل في غزة هذا هو هدفه: الأمن لإسرائيل والوجود والوحدة لفلسطين. ولكن هذا الهدف الذي لم يُتَح له أن يتحقّق بالطرق السلمية والمفاوضات، لن يتحقّق بطرق الموت.

سلك الفلسطينيون طرق السلام والمفاوضات والاعتراف بدولة إسرائيل وبأمنها، ولم ينالوا شيئًا. وما زال حتى اليوم ألوف الأسرى في تعذيب السجون الإسرائيلية. وبقي القتل واقتياد الأسرى مستمرًّا، ليس فقط في غزة، بل في مدن الضفة الغربية المسالمة أيضًا.

إسرائيل تقول : أمنها أولا وكفُّ الرعب عن سكّانها. هذا حقٌّ لها. ولكنّ تدمير غزة ليس الطريق الصحيح لذلك. سوف يتبيّن ذلك عندما يتوقّف الدمار. سنرى غدًا هل يحصل الأمن المنشود. لأنّ المنشود هو أمن للفلسطينيين أيضًا. وهذا كيف يتحقّق؟ ما هي الطرق التي تؤدّي إلى الأمن لإسرائيل ولفلسطين؟ هل يدخلها الإسرائيليون يومًا؟ أم يرون أنّ بقاء الاحتلال هو الطريق الآمن لهم؟ وعلى الفلسطينيين إذًا أن يقبلوا بأن تكون كرامتهم وحرّيّتهم وأرضهم هي الممرّ الآمن للأمن الإسرائيلي؟ هذا أمر يناقض الطبيعة، يناقض ما تطلبه إسرائيل لنفسها. وكلُّ يوم يمرّ هو دليل على ذلك. ما تطلبه إسرائيل لنفسها يجب أن تطلبه للفلسطينيين. هكذا يتمّ الأمن للجميع. لا احد يعيش على حساب غيره وإلا ولّد الموت بين يديه وانعدام أمن مستمرّ.

ولذلك فإنّ غزة اليوم هي ضحية أخطاء ما زالت تتكرّر، أخطاء فلسطينية وإسرائيلية، بل دولية أيضا. هي ضحية رؤى مبنية على إلغاء الآخر، أو في أفضل الأحوال على العطف عليه. والمطلوب ليس عطفًا، ليس رحمة فقط، بل عدل ومساواة.

٣      إسرائيل اليوم قرّرت من أجل أمنها أن تدمّر غزة. وتدمير غزة زرع في القلوب حقدًا وثأرًا هنا وفي العالم. هذا كلّه، من الذي يشفيه؟ مزيد من الأسلحة ومزيد من العمليات العسكرية لن يحوّل القلوب إلى قلوب صديقة. أمن إسرائيل هو صداقة الشعب الفلسطيني بعدما ينال حرّيّته وأرضه. هذه هي الطريق الوحيدة للأمن والبقاء. وما عدا ذلك فهو تدمير لكلّ مستقبل.

تفجير هذا الكمّ الهائل من العنف هي ساعة الحقيقة لإسرائيل وللفلسطينيين. حكّام إسرائيل وفلسطين بجميع أحزابها وفصائلها يجب أن يسعوا إلى الحلّ النهائي الذي يتيح للإنسان الفلسطيني أن يكون إنسانًا، أن يعيش حياة إنسان كريم ناعم بحريته وبأرضه، ويتيح للإسرائيلي أيضًا أن يكون إنسانا آمنًا لا يدمِّر ولا يقتل ولا يتجبَّر. ولكن هل هناك نية صادقة للتوصّل إلى السلام النهائي، وبه إلى الأمن المنشود؟  أم النية هي الاستمرار في السير في طريق الظلم والعنف وهي الطريق الرحبة المؤدية إلى الهلاك، كما قال السيد المسيح: "فما أوسَعَ البابَ وأسهلَ الطَّريقَ المؤدِّيةَ إلى الهلاكِ، وما أكثرَ الَّذينَ يسلُكونَها" (متى ٧:١٣).

٤      نحن اليوم في الناصرة، في إسرائيل، نصلّي من أجل كلّ إنسان في هذه الأرض، فالكلّ صورة الله، اليهودي والمسلم والدرزي والمسيحي. نصلّي ونسأل الله أن يفيض روحه في كلّ واحد منّا، فينا وفي حكّامنا، ليجد نفسه إنسانًا كريمًا بالكرامة التي منحها الله لكلّ إنسان بالتساوي.

استمعنا في صلاتنا في هذا السماء إلى الإنجيل المقدس للقديس متى يقول: "عامِلوا الآخَرينَ مِثلَما تُريدونَ أنْ يُعامِلوكُم. هذِهِ هيَ خُلاصةُ الشَّريعةِ وتَعاليمِ الأنبياءِ. أُدْخُلوا مِنَ البابِ الضيِّقِ. فما أوسَعَ البابَ وأسهلَ الطَّريقَ المؤدِّيةَ إلى الهلاكِ، وما أكثرَ الَّذينَ يسلُكونَها. لكِنْ ما أضيقَ البابَ وأصعبَ الطَّريقَ المؤدِّيةَ إلى الحياةِ، وما أقلَّ الَّذينَ يَهتدونَ إلَيها" (متى ٧:١٢- ١٤). معاملة الآخرين بالمثل هي الطريق الضيق في حياتنا الخاصة، وفي حياتنا العامة التي نعيشها اليوم في إسرائيل وفلسطين. ومع ذلك على كلّ مؤمن بالله أن يدخلها, فيكون الله رفيقه وهاديه، ويكون الطريق الضيق والصعب هو الذي يؤدّي بنا جميعًا إلى الحياة. نسأل الله أن يهدينا جميعا وأن يهدي حكّامنا في مقدِّمتنا. آمين.

+ البطريرك ميشيل صبّاح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *