من أخبار أبي هفّان…

مراسل حيفا نت | 13/02/2020

من أخبار أبي هفّان…

د. منعم حدّاد

أبو هفان (المتوفى عام 871 م) عبدالله بن احمد بن حرب المهزمي عالم بالشعر والأدب، بصريّ سكن بغداد، أخذ عن الأصمعي، له “أخبار الشعراء”، “صناعة الشعر”، “أخبار أبي نواس”، عاصر أبا نواس وكان من خلصائه ونظرائه وندمائه، ينظم الشعر ويرويه.

“ولم يكن أبو هفّان – مع أدبه وشعره – في بسطة من العيش بل كان فقيراً، ضيق الحال يلبس ما لا يكاد يستر جسده (شأنه شأن كل طالبي العلم والأدب ومحبّيهما في كلّ زمان ومكان)، فيعزّي نفسه بقوله:

عاذل إن يكُنْ برداي رثّا

فلا يعدمك بينهما كريم

ويقول:

عريان أعرى من فصوص النرد

 كالسيف ماضٍ ما له من غمد

ويقول:

تعجّبَتْ درُّ من شيبي فقلت لها

لا تعجبي فطلوع البدر في السدف

وزادها عجباً أن رحت في سملٍ

وما دَرَتْ درّ أنّ الدرَّ في الصدف

ويقول:

يعيّرني عُرْيِي رجالٌ سفاهةً

فعزّيت نفسي مصدراً ثم مورداً

وإنّي كمثل السيف أحسن ما يرى

وأهيب ما يُلقى أذا هو جُرِّدا

بل إنه باع ثيابه ليأكل بثمنها:

لعمري لئن بيعت في دار غربة

 ثيابي أن ضاقت عليّ المآكلُ

فما أنا إلا السيف يأكل جفنه

 له حلية من نفسه وهو عاطلُ

غير أن السبب في فقره هو الجود والشجاعة، حيث يقول:

فإن تسألي عنّا فإنّا حلى العلا

بنو مهزم والأرض ذات المناكب

وليس لنا عيب سوى أن جودنا

أضرّ بنا واليأس في كلّ جانب

فأفنى الندى أموالنا غير ظالم

وأفنى الردى أعمارنا غير عائب

أبونا أبٌ لو كان للناس كلّهم

أباً واحداً أغناهمو بالمناقب

ويروى أنه بينما كان يمشي في بعض طرق بغداد إذ نظر إلى رجل من العامّة على فرس فقال: من هذا؟ فقيل: كاتب فلان! ثم مرّ به آخر، فقال: من هذا؟ فقيل: كاتب فلان! فأنشأ يقول:

أيا ربّ قد ركب الأرذلون

ورجلي من رحلتي دامية

فإن كنت حاملنا مثلهم

وإلا فَأَرْجِلْ بني الزانية!

وقال أيضاً:

يا مولج الليل والنهار

 صبراً على الذّل والصغار

كم من حمارٍ له حمار

ومن جوادٍ بلا حمار!

واستغرب أحدهم كيف كان يركب حمير الكراء (“تكسيات” تلك الأيام!) فردّ عليه أبو هفّان:

ركبت حمير الكرا

لقلّة من يعترى

لأن ذوي الكرما

تِ قد غُيِّبوا في الثرى!

وهو يلمّح إلى ان الثراء وملذّات الحياة والتقرّب من المرهفين تأتي من بعض الطرق الخسيسة (وما أشبه الليلة بالبارحة!) وبواسطة “مدّ الحبل”(ومسح الجوخ)، فقال في ذلك:

من سرّهُ طيب الحيا

ةِ وقرب أولاد النعم

حتى يعزّ بدهره

ويثرى من عدم

فـلـيـأخــذ الـحــبــل الـطــويــل

ويـمـشـي قـــدّام الـــغـــنــــم!

وأصدق صورة لحاله ولأمثاله من الشعراء والأدباء والعلماء (الذين لم يكونوا يتمتعون في زمانه ب”جوائز تفرّغ” وبطباعة دواوين ومجموعات أدبية على حساب “السلطان”) هي الصورة التالية:

“سألت ورّاقاً عن حاله فقال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدقّ من مسطرة، وجاهي أوهى من الزجاج، وحظّي أشدّ سواداً من العفص إذا خلط بالزاج، وسوء حالي ألزم لي من الصمغ، وطعامي أمرّ من الصبر، وشرابي أكدر من الحبر، والهمّ والألم يجريان في علقة قلبي مجرى المداد في شقّ القلم”!

فقلت: يا أخي،عبّرت ببلاء عن بلاء، فأنشد:

ألمال يسترُ كلّ عيب في الفتى

والمال يرفعُ كلّ وغدٍ ساقطِ

فعليك بالأموال فأقصد جمعها

واضرب بكتب العلم وجه الحائط!

رحمك الله يا أبا هفّان وغفر لك كلّ ما ارتكبت من آثامٍ ومعاصٍ لأن الله سبحانه وتعالى سيغفرها لك لصدق ما قلت!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *