الوقائع العجيبة في رواية هِشام عبدُه الأولى

مراسل حيفا نت | 16/01/2020

الوقائع العجيبة في رواية هِشام عبدُه الأولى

رُقيّة عدوي؛ مُدَّرِسة في مدرسة المتنبّي

“الوقائع العجيبة في زيارة شمشوم الأولى لمانهاتن”، هي باكورة أعمال المهندس الحيفاويّ هشام عبدُه. رواية عجائبيّة تحبس الأنفاس وتجذب القارئ من عتبتها الأولى. عنوانها، إذ يأتي غرائبيًّا وطويلًا، يُخالُ لنا أنّه على غرار كتب التراث والأدب الكلاسيكيّة، ليقع القارئ في فخّ أحداث الرواية وحداثيتها العلميّة-الخياليّة، لتأتي على النمط البوليسيّ-المخابراتيّ الذي لا يشبه إلّا أبطالها، ليؤدّي كلّ واحد منهم دوْرَهُ في بطولة جماعيّة مثيرة للانتباه. أبطال الرواية الذي جاءوا من نتاج “خيالٍ شرقيّ مُجنّح للكاتب”، كما يُشهر الكاتِبُ سبّابته في أولى الصفحات تحت بند التنويه والتحذير. لم يتحرّر عبدُه من قاعات محاضَراته بعد، وعلى ما يبدو فإنّ القارئ سيبقى حبيس نظريات البروفيسور إيال بيكهام، نقاشاته مع طلّابه، ساحات النضال ونصل السكّين، وصولًا إلى فكفكةِ شيفرات “جريمة” قتله في بركة السباحةِ، وهو المتخصّص في علم الحاسوب ورئيس مختبر السايبر، الشيفرة والأمن السايبريّ. وتتوالى الأحداث الكثيرة.

يُحذّر الكاتب، ومنذ البداية، أنّ روايته من نسج خياله، وهي كذلك، وأنّ حبكته الخياليّة هذه، إن تشابهت مع الواقع، فإنّ ذلك حتمًا وليد الصدفة. فيا رُبّ صدفة خير من ألف ميعاد، تجعل من أبعادِ الرواية هذه محاكاةً لواقعنا المأزوم وعصرنا الحداثيّ-الحديث. الرواية ومن صفحاتها الأولى تضع القارئ في مواجهة جريمة غامضة، تحبس أنفاسه وفقًا لمزاجيّة ونزق رئيس طاقم التحقيق، سامي ليبوفيتش. علاوة على توظيف الجغرافيا، التاريخ، علم النفس، الميثولوجيا والخيال العلميّ لتجعل من الرواية استثنائيّة الخطى والتوجّهات، لتتحدّى النمطيّة الروائيّة المُعتادة في عصر السرعة والتكنولوجيا. وإن كان هذا التوظيف يبدو زائدًا ومُثْقِلًا في بعض المواضع. تعقد الرواية بأحداثها المثيرة، قِرانَها، على عصر التطوّر والتكنولوجيا لتَلِد حبكة زاخرة بتوجّهات انسانيّة، اجتماعيّة، جندريّة وسياسيّة مغايرة.

أبرز التوجّهات، كان التوجّه الجندريّ، إذ كانت المرأة عنصرًّا فعّالًا ومشاركًا بالأحداث بل صانعًا لها، بأبعاد ومفاهيم مختلفة، وبصورة عابرة للقوميّات. الشخصيّة العربيّة-المقدسيّة تفرضُ سطوتها، وإن كنتُ أفضّل أن أراها مبادرة أكثر، لا منفّذة لخطّة رسمها لها بيكهام وتمار. هدير ياسين، فلا بدّ أنّ اسمها كان مدروسًا، فهي، هاءٌ تسبِقُ دير ياسين، ليست مصادفة، فهي ليست بهاء الغائب. عمليًّا، تنصف الرواية المرأة فتجعلها انسانة تمتّع بالحرّيّة الفكريّة، أكاديميّة في بعض المواضع ومناضلة وصاحبة قضيّة إنسانيّة عابرة للجنس، الدين والقوميّة. الأمر الذي وفّر أرضيّة خصبة للمشاركة الانسانيّة-الاجتماعيّة من جهة، ومن جهة أخرى عزّز من آليّات النضال المشتركة تتويجًا لمبدأ النديّة الذي دعا إليه صاحب “أرض البرتقال الحزين”، غسّان كنفاني، لمّا قال:” لا تمت قبل أن تكون ندًّا!”. بالإضافة إلى ذلك نجد الرواية وبأحداثها تعبر الأقاليم وتطوف في العالَم، تعبر بذلك الحدود وتتجاوز القوميّات، ليس هربًا من الماضي أو الواقع، بل في حالة من حالات الثورة على الاستكانة والبكاء على الأطلال من جهة، ومن جهة أخرى لصياغة استشرافيّة مغايرة لمحاكاة واقع انسانيّ-سياسيّ مشترك يقوم على العدالة الاجتماعيّة والمساواة. لا سيّما وأنّنا نشهد مؤخّرًا، أكبر عمليّات تمرّد جماعيّة لتحطيم فكرة، وربّما وهم، الحدود.

” بعد فترة ما، سألتْ هدير:” ماذا سيحدث في العالَم الآن، يا إستير؟”. فما كان من إستير إلّا وقامت عن كرسيّها، وربّتت على كتفها بحنان وطلبت منها بحزم قائلة:” لا عليكِ الآن يا هدير. لا عليكِ! أنت الآن ضعيفة جسديًّا! اتركي العالَم وحده الآن! لقد أنقذته مرّة واحدة! لا تقلقي على العالَم الآن! لقد فعلتِ ما به الكفاية، لا بل أكثر! إنّ العمليّة الناجحة لإخراج الرصاصة، ذات قطر التسع مليمترات من ساقك، كانت طويلة ومعقّدة! أنتِ عليكِ الآن أن تُفكّري بذاتك فقط، وكيف ستعودين بعد الشفاء إلى السباحة”. أضافت إستير قائلة:” ولكن عليك السباحة في البركة فقط، وليس في أيّ بُحيرة!”. ضحكت هدير غصبًا عنها وأردفت:” ولكن ليس في بركة الجامعة أيضًا”. (من الرواية/ صفحة 260). يُشير هذا المقطع المقتبس من الرواية إلى وحدة المصير، ومهمّة كلّ إنسان بغضّ الطرف عن جنسه، لغته، قوميّته وهوّيّته، مهمّته المقدّسة في الدفاع عن هذا العالَم وحمايته، شريطة ألّا يُهمل الإنسان نفسه. كما ويحتمل هذا المقطع ما يحتمل من السخرية المُبطّنة واللاذعة، السخرية التي تُعتبر وسيلة من وسائل المقاومة الراقية جدًّا.

فكرة وحدة المصير، فكرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقضيّة النضال المشترك الذي يرنو إلى تحقيق العدالة، الحرّيّة والمساواة بين الأفراد، فتوّجه أفكارهم وتتحكّم بالتالي بأفعالهم وتصرّفاتهم. لتكون وبحقّ، فكرة وحدة المصير، واحدة من أبرز المعطيات الفاعلة في تحريك أحداث الرواية. يبقى السؤال الذهبيّ مطروحًا؛ هل لوحدة المصير أن تُحرّك قضايانا على أرض الواقع أيضًا، لا على أرض ألْتْنُوئيل فحَسْب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *