الخير فينا أصيل أم دخيل ؟

مراسل حيفا نت | 06/11/2019

الخير فينا أصيل أم دخيل ؟

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ثم أما بعد :

في محاولة متواضعة لفهم الاضطراب السلوكي المعرفي وحالة الفوضى الأخلاقية ، ولتحليل حالة الردّة الحضارية والإنزلاق للممارسات البهائمية للأفراد والجماعات ،

ولتكوين صورة مبدئية لمستقبل السواد الأعظم للبشرية ، أضع بين أيديكم تأصيلاً علمياً وشرعياً وفلسفياً نستقرئ به الواقع ونستنطق مجريات الأحداث ونستجلب

الأدلة والشواهد العلمية والشرعية فنسقطها عليه ، ولا أدعي أني وكثير من المهتمين بهذا الجانب السلوكي والأخلاقي للمجتمعات نمتلك الأجوبة الكاملة والحلول

القاطعة ، لكنها محاولة نبتغي فيها وجه الله تبارك وتعالى ومنفعة العباد .

يقول علماء السلوك بأن الخير في النفس البشرية سلوك مكتسب في حد ذاته وهو دخيل عليها وليس جزءً من تركيبتها السيكولوجية

فالنفس بفطرتها تميل الى الكفر بمعناه اللغوي أي الجحود والامتناع عن المبادرة بالخيرات قال تعالى: وكان الإنسان كفورا .

والانسان بطبيعته يميل الى الشهوة والكسل والخمول والطمع والاستحواذ ، ويشوب كل ذلك القلق والخوف بدوافع غرائزية قال تعالى :

إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلّين .. فالهلع هو الخوف والقلق الشديدان بدافع حب البقاء والاستمرارية

والجزع هو الخوف مع قلة الصبر على اختبار المصاعب ، والمنع عن العطاء والبذل يكون في حال الرخاء والنعمة .

ولعل أغلبنا اختبر الجحود والنكران باختلاف مستوياته ، واقرب مثال هو أن يُبتلى أحدنا بالخوف أو المرض أو ما يُكدّرُ عليه صفاء معيشته وينزع الطمأنينة عن

روعهِ ، قال تعالى : ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ ‏من الأموالِ والأنفسِ والثمرات وبشّرِ الصابرين ..

فترانا نقسم على الله ونضع العهود والمواثيق لئِن كُشف عنا البلاء فسنبادر الى التوبة والاستغفار وفعل الخيرات وحب المساكين ، ولكن سرعان

ما نرتد عن العهد فور حصولنا على مبتغانا , قال تعالى : وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُورًا

وقال تعالى :وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ …

وعليه : فيحق لكل عاقل أن يسأل : هل الصراع البشري القائم من لدن ابني آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وعلى اختلاف أشكاله وتفاوت مستوياته

وتباين نزعاته وتعدد محركاته ودوافعه سببهُ نَزعٌ غرائزي يدفع الناس لإشباعه بالقتل الفردي أو الجماعي وبالسعي لإلغاء أو حتى تدمير الخصوم ، وباسترقاق

الأفراد والجماعات والدول ؟ أم أنه عنصر في اللاوعي الجمعي للأفراد والجماعات يحول بينهم وبين أي تهديد محتمل قد يفضي الى انقراض الجنس البشري ؟

أم أنه متلازمة تتناسب طردياً مع حاجات الإنسان المُلحّة في الحصول على موارد العيش الطبيعية من جهة وعلى طموحه التوسعي والاستعماري من جهة أخرى؟

وأنا أدّعى بأني قادر على إسقاط كل ما سلف ذكره على حياتنا اليومية ، فالقتل والتصفية الجسدية المباشرة وسفك الدم والتعذيب العشوائي أو الممنهج بصرف

النظر عن الدوافع لهو تجسيد عملي لسيطرة غريزة بعينها على سلوك الأفراد والجماعات وأشهد عليها بقوله تعالى “ويسفك الدماء” ، أما التحريض على القتل مع

سابق إصرار وتخطيط وترصد بدون حساب العواقب المترتبة على ذلك الفعل لهو عنصر الشر القابع في غياهب اللاوعي والذي يطفو بين الفينة والأخرى

ويسيطر على العقول بدافع التحدي أو الغيرة أو الحقد أو الشعور بالنقص , وقد تجلى بأوضح صوره البدائية في قول أحد ابني آدم لأخيه “لأقتلنك” ،

أما المعادلة الصفرية وإلغاء الآخر وتدميره معنوياً ما هي إلا صورة من صور النرجسية العمياء المتجذرة في النفوس الخارجة عن السيطرة ، ومثال ذلك قصة

الأخوين أصحاب الجنتين في سورة الكهف “وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا .

وأما العربدة وترويع الآمنين وتخريب الممتلكات العامة والخاصة ، ما هي إلا لحظات ينتشي فيها المرء معلناً انسلاخه اللحظي من الثوابت العامة وتمرده على القيم

والمبادئ المتفق عليها “ويُفسدُ فيها” .

أما البروجوازية الرأسمالية الطفيلية الإنتهازية الجشعة المستعبدة للشعوب والأفراد ، ما هي إلا صورة صافية لطمع الانسان وجشعه وشهوته للسلطة والسيطرة

والنفوذ ، والتي قد يسعى إليها بكافة الوسائل والسبل غير مكترث بمصائر الغير ، متسلحاً بالميكافيلية وازدواجية المعايير في سبيل تحقيق مآربه ، وأوضح مثال

قرآني ضرب في فرعون وقومه “فاستخفّ قومه فأطاعوه” .

الصيرورة أو السيرورة (بحسب الكاتب اليساري الماركسي سلامة كيلة) :

أما السيرورة هي السير والتقدم التراكمي ، وأما الصيرورة فهي التقدم والتحول معاً أي تراكم كمي وتحول نوعي …

ولعل الاقتباس هنا مع الفارق بالمعنى قد يفضى إلى حالتين متوازيتين لهما نتيجة وثيقة الصلة ، بمعنى أن سيرورة الشعوب هي المسار التراكمي للممارسات

الفردية والجماعية للشعوب والحضارات ، وبالتوازي فإن صيرورة الشعوب هي التحول النوعي في الوعي الجمعي والثقافة العامة للشعوب والحضارات ،

بمعنى آخر أن المجتمعات بعوامها ومثقفيها ونخبتها وإعلامها هي المسؤولة إبتداءاً عن المسار التاريخي لشعب بعينه أو فئة معينة أو قومية أو عرق معينين ،

بحيث يتم تشكيل النمط الفكري للمجتمع ابتداءاً من الفرد الواحد ، وعليه فإن التحول النوعي في خط سير الشعوب نحو التحضر والتمدن والرُّقي والإبداع

لا ينفك أبداً عن النهوض بالفرد وتبلور نمطه الأخلاقي وهويتة وانتمائه الفكري والعقدي ، والعكس هو الصحيح .

هذا غيض من فيض أمراض أبنائنا ومجتمعاتنا والتي تحتاج الى تحول نوعي بل جذري في المفاهيم العامة للصواب والخطأ والحلال والحرام والنافع والضار

وغيرها من الثوابت الأساسية التي كانت فيما مضى بدهية وباتت طارئة ومستهجنة وغريبة في زمن لا أعتقد فيما أعلم أنه قد سبق له مثيل .

 

كتبها : محمد سليمان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *