סוף עידן האנושות: المجرم الذي يترك تذكارًا

مراسل حيفا نت | 26/09/2019

رقيّة عدوي؛ مُدرِّسة في مدرسة المتنبّي

“الصيّاد”، مسلسل بوليسيّ، تشويقيّ وجرائميّ مصريّ عُرض لأوّل مرّة على الشاشات في رمضان 2014 من اخراج المخرج السينمائيّ أحمد مدحت و فكرة الممثّل المصريّ يوسف الشريف الذي لعب دور البطولة في المسلسل وأمّا السيناريو فقد كان بمعالجة دراميّة من السيناريست المصريّ عمرو سمير عاطف. شارك في البطولة نجوم عدّة وأبرزهم أحمد صفوت، دينا فؤاد، ميّ سليم، أشرف مصيلحي والنجم الأردنيّ نضال نجم وغيرهم. ينجح السيناريو ومنذ الدقائق الأولى بشدّ انتباه المشاهد وجذبه، إذ تتوالى الأحداث وتشتبك التفاصيل بشكل رهيب إذ تقف وزارة الداخليّة أمام جرائم قتل منظّمة ضدّ مجموعة كبيرة من الضبّاط، إذ يُذبح الضبّاط بنفس الطريقة وبأداةٍ حادّة. يستلم هذا الملّف ويُباشر بالتحقيق فيه ضابط شابّ يُدعى طارق غلّاب (الممثّل أحمد صفوت) الذي يكتشف أنّ أسلوب القتل والذبح بأداة حادّة باستخدام اليد اليُسرى بزاوية معيّنة هو ذاته أسلوب القتل الذي اتّبعه مجرم قديم ألقت وزارة الداخليّة القبض عليه وقتلته دون العثور على بيانات حقيقيّة له غير اسم الشهرة الذي به يُعرف، الصيّاد. لذلك يستعين الضابط الشابّ بملفّ القتل هذا، إلّا أنّ المعضلة التي تواجهه تكمن في أنّ الضابط الذي قتل الصيّاد هو النقيب سيف عبد الرحمن (النجم يوسف الشريف) وقد أُصيب بالعمى أثناء عمليّة مطاردة الصيّاد، وآخر ما رآه في حياته قبل فقدان بصره هو الصيّاد الميّت.

تتوالى الأحداث وتتعاقب الجرائم ليدخل معظم ضبّاط الأمن إلى دائرة الشكّ والاتّهام، بما فيهم الضابط الكفيف سيف عبد الرحمن. يتضّح أخيرًا أنّ الصيّاد هو نفسه الضابط سيف عبد الرحمن الذي يتظاهر بالعمى بشكل بارع ويتخّفى تحت جُنح الظلام وأحيانًا في رابعة النهار ليقتصّ وينتقم من مجموعة ضبّاط فاسدين يتاجرون بالسلاح، حاولوا تجنيده، رفض عرضهم وفكّر في مقاومتهم فكان ردّهم عليه بذبح زوجته وابنته الوحيدة أمامه، بالتالي قرّر الانتقام من جميع أفراد الخليّة بذات الطريقة، الذبح. على رأس تلك الخليّة يقف اللواء المُقعد والمتقاعد فيصل غلّاب والد الضابط الشابّ الذي يُحاول بدوره حماية والده من الصيّاد. علاوة على مناقشة العمل لقضيّة محوريّة تخصّ المجتمع المصريّ وهي فساد وزارة الداخليّة وبالتوازي معها يطرح ثنائيّة العدل والقانون، إلّا أنّ الأهمّ هو طرح جدليّة القتل بوازع أخلاقيّ، إذ يسعى سيف عبد الرحمن للثأر من القتلة فيصير هو القاتل، وآخر المقتولين هو سيف، إذ يكتب ويحكي لنا سيف نهايته، بعد ذبح اللواء المتقاعد، يخلع سترته كاشفًا عن سترته البيضاء المكتوب عليه بالإنجليزيّة loser وتخترق الرصاصات جسده.

هاجم الصيّاد الإنسان خلال تصاعد الأحداث وجرائم القتل فقال:” الإنسان أخطر ما في التاريخ، هو الأداة التي تُنفّذ، هو القاتل والخائن وأصل كلّ شرّ في الكون”. ولا ننسى بأنّ أوّل جريمة على الأرض ارتكبها إنسان، تلك الجريمة التي اقترفها قابيل بحقّ أخيه هابيل، فهل من متسع الآن لنعُدَ معًا قتلانا منذ مطلع هذا العام فقط؟ هذا الأمر كذلك يُعيدنا إلى التجربة الاجتماعيّة التي خاضتها فنّانة الأداء الصربيّة مارينا أبراموفيتش التي اشتهرت بفضل أعمالها التي تتناول العلاقة بين الأداء والجمهور، حدود الجسد وامكانيّات العقل. تجربتها عام 1974 هدفت للتعرّف على تصرّفات الإنسان إذا ما مُنِح حرّيّة القرار دون شرط، لذلك وقفت مارينا ست ساعات متواصلة ودون حراك، أتاحت للجماهير أن يفعلوا بها ما يريدون، كما ووضعت إلى جانبها طاولة عليها العديد من الأدوات؛ سكّين، أدوات حلاقة، مسدس وأزهار…  كما وكتبت إلى جانبها تعهدًا بعدم مقاضاة أيّ إنسان خلال هذه التجربة. ردّة الفعل الأولى كانت سلميّة كالوقوف أمامها ومشاهدتها أو الاكتفاء بتقبيلها، إلّا أنّ الأمر لم يستمرّ كثيرًا فصار الناس أكثر عدوانيّة فمنهم من قام بتمزيق ملابسها، مهاجمتها بالمسدّس، نكزها بشوك الأزهار وصولًا إلى التحرّش بها وما إن همّت بالتحرّك حتّى لاذ الناس بالفرار. أثبتت هذه التجربة لمارينا أنّ الإنسان ومها كان عرقه، سنّه أو خلفيّته فإنّه قادر على ارتكاب أفعال شنيعة إذا ما أُتيحت له الفرصة فقط. إنّ الناظر لحال مجتمعنا اليوم ومع تفشّي مظاهر العنف المختلفة وغول القتل الذي حوّلنا إلى مجتمع عنيف، مجرم ومتآكِل يستهلِك نفسه بنفسه، يُدرك تمامًا أنّنا اليوم نقترب تمامًا من مرحلة الانسلاخ عن الإنسانيّة والابتعاد عنها. كلّ مَرَافِق مجتمعنا ومؤسّساتنا التربويّة والتعليميّة على حدٍّ سواء باتت مشاعًا للجريمة، بل وغدت مصانع ضخمة تُصنّع المجرمين وتُصدّرُ الجريمة التي تغلغلت حتّى النخاع في شتّى جنبات مجتمعنا وبين ظهرانينا. في الحقيقةِ صرت أشعر بحاجة مُلِّحة لأنّ أكتُب وعلى رؤوس الأشهاد:” نحن لسنا بمجتمعٍ سويّ؛ رُبّما مُجرّد قبائل أو في أحسن الأحوال مجموعة من “البشر”، نلتقي معًا في الشوارع، المقاهي، المكاتب الحكوميّة والمدارس، نتفنّنُ في إلغاء بعضنا البعض، نقدُنا لا يكون بهدف الإصلاح أو التقويم بل بهدف الهدم والتثبيط والنيْل من الآخرين، وما إن يُمسك أحدنا وظيفة ما أو صلاحيّة معيّنة حتّى نقول بصوت مكتوم مخنوق الله لا يحكِّم عربيّ بعربيّ من جهة، ومن جهة أخرى نبذل قصارى جهدنا للنيْل منه، عرقله عمله، التدبير للمكائد والحيل المختلفة للإيقاع به. لا شكّ بأنّ الاعتماد على مثل هؤلاء أو التستّر عليهم يكون هو الجريمة بعينها، أمّا من قام بتعيين أمثالهم مع علمه المسبق بنفاقهم وفسادهم، فهو مرتكب الجريمة المزدوجة في مجتمع يشربُ نخب الجريمة والفساد كلّ يوم”.

بالإضافة للتجربة أعلاه واستعداد الانسان لأن يُصنّع الجريمة في ذاته وأن يستهلك نفسه فإنّنا في مجتمعنا كذلك نقوم بتربية المجرمين، تغذيتهم وتعليمهم، بل ونعمل على تأهيلهم ليكونوا مجرمين محترفين من حيث لا ندري أو نعلم. لا يمكن لأيّ عاقل أن يغفل عن أثر التربية، البيئة والتعليم وكذلك الوضع الاجتماعيّ والحالة الاقتصاديّة. هذا ما يراه كذلك الفيلسوف الفرنسيّ جان جاك روسو (1778-1712)، الذي يُعتبر واحدًا من أبرز كُتّاب وفلاسفة عصر التنوير في أوروبا، وإن تناول ذلك بثوريّة إقصائيّة نوعًا ما، روسو رأى مثلًا بأنّ المجتمع يُفسِد الأفراد من خلال إبراز ما لديهم من ميل إلى العدوانيّة والأنانيّة ليدعو إلى عودة الإنسان إلى الطبيعة التي لا تسلب من الإنسان أيّ شيء بل تعلّمه كيف يكون قوّيًّا، لا يعرف المرض، البرد والمطر مقابل المدنيّة أو الحضارة التي تسلب من الإنسان كلّ مقاومة بدنيّة وكلّ فضيلة غريزيّة وكلّ نور فطريّ.  لا يمكننا اليوم إنكار أزمات مجتمعنا الكثيرة، وأبرز أزمة عندنا هي أزمة صناعة الإنسان، وأعتقد بأنّ جميع أزماتنا اللاحقة والمتتابعة تمخضّت وتتمخّضُ عن هذه الأزمة في ظلّ إغفالنا الكبير لدور القيم وأهمّيّة التربية عليها في بناء وصقل شخصيّة إنسان واعٍ، حرّ، مستقلّ، مُبادِر وناقد مُستنير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *