“عندما تشيخ الذئاب”

مراسل حيفا نت | 21/06/2019

عندما تشيخ الذئاب

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

عجّ السباق الدراميّ الرمضانيّ بأعمال متنوّعة ومختلفة، كما وتُشير بعض الآراء إلى محاولات الدراما السوريّة الجدّيّة للعودة إلى سابق عهدها وزخمها المعهود وهي الحافلة بالإبداع، التميّز، متانة السيناريو وتركيبة الحوارات المغايرة وعلاوة على اعتمادها على تقنيّات البطولة الجماعيّة، وتمّ ذلك بواسطة بعض الأعمال الأخيرة التي نافست الدراما المشتركة والهجينة في العالَم العربيّ. “عندما تشيخ الذئاب”، مسلسل دراميّ من اخراج المخرج عامر فهد وسيناريو وحوار السيناريست حازم سليمان، وهو عمل مأخوذ عن النسخة الروائيّة التي تحمل ذات الاسم، “عندما تشيخ الذئاب”، للروائيّ والقاصّ الأردنيّ من أصول فلسطينيّة، جمال ناجي (1954-2018)، وهي رواية أخذت الرواج الكبير في أعقاب نشرها عام 2008 وصولًا إلى القائمة النهائيّة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة “البوكر” لعام 2010.

تدور النسخة الروائيّة حول ثالوث الشرق المقدّس وتابوهاته الكبيرة والمحرّمة؛ الدين، الجنس والسياسة. تتشابك أضلاع هذا الثالوث في قالب قصصيّ مثير بالاعتماد على تقنيّة تعدّد الأصوات والوجوه وتنوّع الرواة، حيث يخصّص الروائيّ جمال ناجي فصلًا لكلّ شخصيّة مركزيّة ورئيسيّة لتروي أحداثًا من حولها وتحرّك مياهً راكدةً من محيطها وفقًا للمشاهد والأحداث المحيطة بكلّ شخصيّة وشخصيّة، وذلك في محاولة لعرض صورة بانوراميّة عن واقع معقّد ومتشابك عن ملامح الهشاشة البشريّة والتعالق غير الشرعيّ أو الطبيعيّ بين الدين، الجنس والسياسة، تنطلق الأحداث وتتشابك كلّها لتصوير واقع أردنيّ، لتكشف المستور عن سلم الارتقاء الاجتماعيّ والتقدّم الطبقيّ من الحارات المنسيّة، المهمّشة والفقيرة لرسم الطريق وتعبيدها باستخدام الدين كغطاء يستر عورات الانتقال المُشوّه إلى مراكز الجاه، الثروة، الجبروت والسلطة، بينما تُمسك الفتاة اللعوب، سُندس، بخيوط اللعبة كلّها. تكشف فصول الرواية تباعًا عورات المجتمع الشرقيّ عامّة والأردنيّ خاصّة لتعرية الجوانب الخفيّة والتحتيّة لمجتمع المدينة الذي يغضّ الطرف عن الكثير من الممارسات حدّ الجرائم أحيانًا، السياسيّة منها والدينيّة، الجنسيّة والاجتماعيّة في ظلّ تسليط الضوء على جوانب أخرى غير معتمة، بل والمبالغة في طرحها بهدف التستّر عن كلّ ما هو مخفيّ في منظومة الشرق الأخلاقيّة والاجتماعيّة القابلة للانهيار تباعًا في ظلّ ديناميّة المجتمع، وإن كانت بطيئة أو متأخّرة نوعًا ما، إلى جانب التحوّلات التاريخيّة، السياسيّة والاجتماعيّة التي تمرّ بها المجتمعات بشكل عامّ.

ينطلق سيناريو المسلسل السوريّ من النصّ الروائيّ وينسحب على فترة التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي مرّت بها دمشق خلال الفترة التي أعقبت انهيار الاتّحاد السوفييتي من خلال قصص ثلاثة أصدقاء من حارة الشيّاح؛ الأوّل هو الشيخ عبد الجليل الصرّاف الذي ما زال يحتفظ في نفسه ببقاياه القديمة من شخصيّة “الجنزير” وهو لقبه السابق قبل أن يرتدي عباءة الدين ومداواة الناس بالأعشاب والطرق الشعبيّة وتكوين قاعدة شعبويّة متينة في الأحياء السوريّة، الأمر الذي جعل منه هدفًا لأجهزة المخابرات والسلطة السياسيّة ليعمل لاحقًا تحت غطاء الدولة وذلك من خلال تأسيس جمعيّة خيريّة بشكل منظّم و معترف بها قانونيًّا، علاوة على تكوينه لقاعدة متينة من التلاميذ الشباب الذين يعرضون بشكل منطقيّ عمليّة التحوّل النفسيّ والاجتماعيّ المنعكس على السلوك لاحقًا، وصولًا إلى ارتكابهم للجرائم وجنوحهم للراديكاليّة والتطرّف، بينما ينعم الشيخ عبد الجليل بحماية جهاز الدولة الأمنيّ لتنقلب مزرعته لبؤرة لقاءات دوريّة تجمع السياسيين مع التجّار ورجال الدين لعقد الصفقات المشبوهة والمختلفة، ففي مزرعة عبد الجليل يجتمع كلّ أولئك الذين لا يمكن لهم أن يجتمعوا معًا في مكان آخر أبدًا، قام بدوره وببراعة الأستاذ سلّوم حدّاد، بينما الصديق الثاني الذي يعرض اليسار وأزمة المثقّفين في تلك الحقبة هو جبران عبد العزيز الشيّاح، المعتقل السياسيّ السابق، الغارق بأزماته الكثيرة والذي يضطر تباعًا للتخلّي عن مبادئه والانسلاخ عن صورته القديمة وصولًا إلى كرسيّ إحدى الوزارات السوريّة مظهرًا ببراعة الانقسام النفسيّ للشخصيّة التي لم يكن مقتنع بها أصلًا، أدّى هذا الدور بجدارة النجم الكبير عابِد فهد. الصديق الثالث، العائد من اجتياح بيروت لم يتوانى قيد أُنملة عن الوقوف في وسط الحارة لانتقاد صديقيه جبران الشيّاح وعبد الجليل الصرّاف (الجنزير) وهو صديقهم أبو فاروق، الذي يُعرّي اليمين المتشدّد واليسار المثقّف الغارق بالسلبيّة والأزمات عقب انهيار الاتّحاد السوفييتي إلى أن قضى قتلًا بين يديّ تلميذ من تلاميذ الشيخ عبد الجليل في عتمة الليل، أدّى دوره بشكل مُتقن ومقنع النجم الكبير أيمن رضا.

يأتي دور النساء في المسلسل دورًا مركزيًّا، حيث سلّط السيناريو الأضواء عليهنّ جاعلًا إيّاهنّ في مركز الأحداث كشخصيّة الجليلة عبد العزيز الشيّاح التي قامت بدورها القدير سمر سامي وهي أخت جبران الشيّاح، امرأة لها قصّة مثيرة وتُحرّك الأحداث ومصائر الشخصيّات من حولها إلى حين موتها في مقدّمتهم أخيها جبران وابنها عزمي (أجاد دوره وبحرفيّة النجم الشابّ أنس طيّارة) وهو من أوائل خرّيجي كلّيّة الحقوق يتعرّض للمصائب وخسارة وظيفته بسبب مواقف خاله وماضيه السياسيّ، يصير من تلاميذ الشيخ عبد الجليل ويكوّن قاعدته ومساره بعيدًا عن حماية عبد الجليل والجهاز الأمنيّ من حوله وصولًا لتكوينه لجماعة متطرّفة، تخفي أمّه الجليلة سرًّا مع علامة هي العقد العصمليّ، يصير السرّ مع علامته، العقد، بين يديّ زوجة أخيها رابعة، ليكون السرّ واحدًا من أسباب تمكين زوجها جبران في الوزارة وتأمين وصوله إليها رغم ماضيه السياسيّ، هكذا تُحرّك الجليلة الأحداث من حولها حتّى بعد موتها، بالإضافة لبعض الشخصيّات النسائيّة الأخرى التي جعلتها الرواية شخصيّات ثانويّة فإنّ السيناريو جعل منها شخصيّات لها مساحتها المركزيّة والمحرّكة للأحداث بشكل كبير، كأمّ عمران مثلًا (أدّت دورها الفنّانة سوسن أبو عفار) وهي حلقة الوصل بين النساء في الحارة والشيخ عبد الجليل، وشخصيّة سندس (أدّت دورها الشابّة هيا مرعشليّ) التي بدت كذلك كواحدة من الشخصيّات المركزيّة التي تلعب بمصائر الأبطال. يأتي ذلك تتويجًا لتقنيّة البطولة الجماعيّة دراميًّا مقابل تقنيّة تعدّد الأصوات والوجوه أدبيًّا وروائيًّا.

عمومًا يأتي هذا العمل بالصيغتيْن الأدبيّة والدراميّة معالجةً لواقع المجتمعات العربيّة وعلى حدٍّ سواء، تتويجًا للنضال الحقيقيّ لتعريّة المجتمعات العربيّة ووضع ثالوثه المحرّم على طاولة النقد، التشريح والمعالجة ومحاولة جدّيّة وحثيثة لتعرية قاع المدينة والتزاوج الرهيب بين السلطة والدين وتحكّم كلّ واحد منهما بالآخر من خلال فرض السطوة والقناعات المختلفة، تباين المصالح والتقائها في ظلّ امكانيّة التنازل عن المبادئ مهما كانت راسخة ومتينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *