أقيم في هولندا هذا الأسبوع مؤتمر حول الجديد في الأبحاث العلمية المتعلقة بعلم الآثار والفنون. وقد تحدد موضوع المؤتمر حول التحاليل الكيميائية ونتائجها في التحف الفنية والأثرية. أقيم المؤتمر في قاعة المحاضرات الخاصة بمتحف فان جوخ للفنون في مدينة أمستردام – هولندا. شارك في المؤتمر العديد من الباحثين من جميع أنحاء العالم من بينهم كميل ساري من قبل سلطة الآثار الإسرائيلية.
عرض المؤتمر النتائج الحديثة في الأبحاث الكيميائية المختصة بعلوم الفنون والآثار حيث كان الهدف من المؤتمر تبادل الآراء وطرق البحث لتطوير عمل الصيانة للمكتشفات الفنية والأثرية. من هذا المنطلق فالمواضيع التي طرحت خلال المؤتمر يمكن حصرها بمجالين أساسيين: الجزء الذي ابرز الجديد والتطورات الأخيرة بمجال الأجهزة التي تساهم بأجراء الأبحاث الكيميائية. بينما شمل الجزء الثاني عرض أساليب وطرق بحث جديدة من خلال عرض نماذج لتلك الأبحاث ونتائجها. إلا أن القاسم المشترك لجميع تلك الأبحاث أنها جميعا تمركزت حول الوصول إلى نتائج تساعدنا على صيانة وترميم التحف الفنية والأثرية.
من حيث الأجهزة والتطورات فقد عرضت العديد من أجهزة الأشعة المعروفة لنا بأجهزة X-Ray وهي الأجهزة التي يعرفها العديد من بيننا من خلال زيارة عيادة الطبيب لتشخيص الأمراض خاصة صورة الأشعة للرئات وغيرها. إلا أن الهدف هنا يختلف تماما: فالتصوير بالأشعة هنا يتم لتحديد مبنى الداخلي لجسم من المعدن أو حتى الحجر وأحيانا يتم التصوير بأجسام معدنية تراكمت عليها طبقة سميكة من الصدأ حيث تساعدنا الأشعة بتحديد مدى الطبقة التي حفظت ومدى سمك طبقت الصدأ وهكذا يمكننا عمليا تحديد كيفية معالجة التحفة.
(2).jpg)
كميل ساري
إلى جانب أجهزة الأشعة (X-Ray) عرضت أجهزة أخرى تعتبر انجازا بمجال التحاليل الكيميائية حيث عرضة عدة أنواع من الأجهزة بينها كبيرة الحجم الثابتة أو الصغيرة المتنقلة التي يمكن جلبها للميدان أو المتحف. المشترك بين جميعها بأنها تجري التحاليل والفحوصات للمكتشفات الفنية والأثرية وذلك دون أخذ عينة من التحفة, وهذا ما نسميه اليوم "الفحوصات الغير مضرة للتحف" (non destructive tests) على العكس مما كان عليه سابقا. حيث أجبرت الوسائل القديمة الباحثون على أخذ العينات من التحف، مما كان يلحق بها ضررا حتى ولو كان جزئيا وغير مرئي للعين. أما بواسطة الأجهزة الحديثة فيمكننا الوصول إلى النتائج ذاتها دون اخذ عينات على الإطلاق بل نكتفي بعرض التحفة تحت الجهاز لننال التحليل للمواد منها صنعت التحفة خلال ثوان معدودة.
مقارنة مع بداية القرن العشرين حيث تلخصت آنذاك الأجهزة للباحثين بعدسة المكبرة للحجم. فيمكننا أن نلخص التطورات في الأجهزة الحديثة من حيث الكمية الكبيرة والنوعيةن وجميعها تحاول الوصول إلى نتائج أفضل بأخذ بعين الاعتبار صيانة التحف دون أجراء الأضرار لها من خلال أخذ العينات والنماذج.
من بين الأبحاث التي عرضت والتي مثلت أهمية تلك لأجهزة الحديثة كان بحثا حول رسومات الفنان فان جوخ والتي لاحظ الباحثون في احداها باختلافات باللون الأصفر. الأمر أثار الشكوك لدى الباحثين وكان السؤال الذي طرح نفسه هل هذا الاختلاف في الألوان هو متعمدا عندما رسمت اللوحة قبل 140 عاما؟ أم أن الاختلاف ناتج لضرر الحق بالألوان على مر الأعوام.
أثبتت التحاليل الكيميائية للألوان المستعملة باللوحة بأنها تأكسدت على مر السنين بسبب الهواء الذي تعرضت له. وكانت إحدى نتائج هذا التأكسد هو الاختلاف باللون الأصفر الذي اخذ بالزوال من الصورة مما أدى إلى أماكن معينة نرى فيها لون الأبيض أو الأصفر الفاتح مكان اللون الأصفر الأصلي. تلك النتائج تساعد الباحثين على معرفة شكل الرسم الأصلي إضافة إلى ذلك تركيب الكيميائي للألوان التي استعملت، ومن هنا يمكن صيانتها وترميمها بشكل صحيح وملائم للمواد الخاصة بتلك الرسمة
أما ضمن مجال التحف الأثرية.

فان جوخ
فقد عرضت إحدى المحاضرات نتائج بحث أجري على مجموعة من العملات النقدية المصنوعة من الفضة وتاريخها الفترة الرومانية فترة حكم القيصر تريان (تريانوس قيصر الإمبراطورية الرومانية بين الأعوام 98 – 117 م). وقد ساد بالسابق الاعتقاد لدى الباحثين بان العملات احتوت دائما على نسبة 80% من الفضة. أما البحث الجديد فقد قارن تحاليل عملات من الفترة ما قبل تريان وعملات من قترة القيصر تريان وأشارت النتائج إلى أن العملات القديمة احتوت على فضة بنسبة 90% أو أكثر. أما العملات من فترة القيصر تريان فاحتوت على نسبة 80% من الفضة. ويعود السبب في هذا الاختلاف بان القيصر أراد التوفير والاقتصاد بتكاليف الدولة لصناعة العملات النقدية. فأدخل إلى العملات الفضية مواد ارخص بدلا من الفضة.
.jpg)
أبحاث أخرى على سبيل المثال أجريت لمكتشفات أثرية شملت الرسومات على الطين المعروف باسم "فريسكو" من كنيسة تقع في شمال البرتغال يعود تاريخها إلى القرن 16 م. وكان البعض من رسومات الكنيسة قد حفظت فقط جزئيا حيث تم إزالة جزأ منها على مر العصور. وتمركز البحث الجديد حول تحديد نوع المواد منها صنعت الألوان لتلك الرسومات. بعد أجراء التحاليل الكيميائية تمكن الباحثون من إعداد المواد الملائمة وهكذا كان بالإمكان إعادة ترميم الرسومات على جدران المبنى وإكمال الأجزاء الناقصة.
لربما هذه الأسطر القليلة تشير إلى مدى التطورات العلمية الأخيرة والتي وضعت علم الآثار ضمن الأبحاث العلمية وصنفته بين العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء وليس كما كان يعتبر سابقا كإحدى المواضيع النظرية. أكثر فأكثر نرى العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء تحتل مكانا اكبر وأوسع بجميع المجالات في حياتنا.
كميل ساري: مدير قسم الرقابة، الأبحاث وسياسة صيانة الآثار




