الدكتور حسن والزيت- د. ماجد خمرة – حيفا

مراسل حيفا نت | 13/11/2010

  لم يكن من السهل اتخاذ القرار في التجول في أرجاء بلادنا والتمتع بمناظرها المدهشة والاستزادة من ينابيع معالمها، الممحية منها والمتواجدة، تلك المعالم التي أبت الزوال لتبقى صخرة صامدة أمام من قتلنا مرتين على الأثر- في النكبة وبعدها. ففي الأولى كانت محاولة تطهيرنا تهجيرا، خوفا وقتلاً، وفي الثانية محاولة محو الذاكرة والتذكر أو قل محو كل شاهد يمكن أن يشهد على ذلك، وما القوانين المتداولة في الأروقة البرلمانية سوى برهان واثبات على ذلك.
كانوا ثلاثة رجال أشداء من الكرمل البحريّ ومن الغور العيلبونيّ ومن المثلث المتصحّر من اعششابه الفحماوي. كانوا ثلاثة من لذة فتى طرفة بن العبد، أتوا من عوالم أخرى، تلك العوالم التي مكنتهم من العلم الذي لم يفقهوا آنذاك منه شيئا.
أتوا من عالم الاشتراكية الذي مكنهم من التفولذ النفسي والمهني واتوا من بيئاتهم العربية القحطانية على اختلاف انتماءاتهم الطائفية فالمحمدان والنصرانيّ جامعهم الإيمان العلمي ليصبح منهم الطبيب والمهندس والاقتصادي.
أحدهم يستصدر القرار بتخطي الحدود التي رسمها الاحتلال الإسرائيلي للتمتع بمعالم فلسطين، ولم يكتف بهذا القرار بل أملاه على الآخريْن دون جزع أو خوف من الملاكين الموكلين به اسرافيل وجبرائيل، حتى وصلت وقاحته لتحدي الجني مارغاروش الحيفاوي ، وما كان على الغوريّ والكرمليّ سوى الانصياع لهذا القرار المشبوه. الوضع حرج… حرج جدا. وخطورته استلزمت الحكمة وحسن الدراية لمجابهته.
فالتجوال في أرجاء البلاد هو من مشاغل السلطات العليا ومن صنيع قرارات موظفيها. كيف ستتوافق أمور القرار- الاقتراح مع قوانين هذه الدولة. وهنا الطامة الكبرى. فكبيرهم مصرّ على قراره، منفعل ومتعنت في تطبيقه، فقد حلف أغلظ الأيمان بلهجته المثلثية غير المعشوشبة "هسّع بكول…" فتنصل له الآخران "لا … لن نقول". وهكذا تمت الموافقة بالإجماع الدمقراطي العربي كعهدنا لمتابعة المسيرة.
شُدت السيارة وجُهزت العجلات وفُحصت الفرامل واعتلت الأصوات "هيا… هيا للتجوال في أرجاء البلاد " حينها صُعق صاحب القرار من سرعة الاستجابة حيث أرخى شدْقيه الاسودين وتبعهما بإرخاء عضلات سوداء أخرى.
كانوا ثلاثة في تلك المركبة اليابانية الصنع التي اجتازت ذلك الكرمل والمثلث لتدخل تلك الأراضي الممنوعة، المزدانة بلوائح بلغة عبرية وعربية ركيكة جدا تُعلمك وتحذرك من الدخول والخروج. تدخل المركبة مع ثلاثة رجالها شاقة عباب الحواجز (المحاسيم) وتُستوقف بين حاجز وآخر ليتصدى لها ذلك المثلثي في عربيته الخشنة أحيانا وفي عبريته المعربة والمشكنزه تارة أخرى. وفي كل حاجز دخوليّ لتلك الأراضي الممنوعة كانت له قصة يرويها دون أن يحكيها مع الاشقياء من أولاد عمنا. أولاد زغب الحواصل أرسلتهم أمهاتهم لحراسة حدود الدولة والحفاظ على أمنها من أبناء البلاد الأصليين!

يدخل الثلاثة تلك الأرض- الشجرة الممنوعة منذ عهد آدم وموسى  وحينها علموا انهم في الوادي المقدس طوى . لم يكترثوا لتلك القدسية بقدر ما التزموا بقرار عميدهم ليجدوا أجسادهم وعقولهم تتجول في أرجاء تلك القرية الآمنة بسكانها وغير الآمنة من ظلاميها احتلالا وسلطة وهمية. وفقط في هذه القرية عرف الآخران مبتغى شيخهم الذي أراد تقديم ما عنده من أدوية للمحتاجين واقتناء الزيت خدمة للاقتصاد الفلسطيني. عُرف السبب فبطل العجب. وهكذا فقد قام الآخران بمحاكاته ليقتنوا بعضا من الزيت. ومن ظن أن عملية شراء زيت كانت باليسيرة فهو على خطأ. وهنا كانت طامة كبرى أخرى. حيث دار حديث مهني جدا لم يفقهه ذلك الكرمليّ بين أصحاب الأرض الممنوعة وبين القروييْن من الأراضي المسموحة، حيث وُصفت جودة الزيوت وكيف أن الزيت يتبع نوعية الأرض والتضاريس والطقس، الجبل والسهل  وما الفرق بين زيت الشمال والوسط والجنوب؟ ملّ الكرمليّ من الحديث بينما استرسل المثلثيّ حتى انه كان لزاما إيقافه لشرحه الجامح والممل التفاصيل وبالمقابل تململ العيلبونيّ.
ثلاثة رجال، ثلاث لهجات من الأراضي المعلنة ولهجة أخرى من الأراضي غير المعلنة تصطدم في خابة من الزيت الذي تم شراؤه بكميات شبه متواضعة- وفي طبيعة الحال وكالمتبع فقد قام الثلاثة بأداء واجبهم بالتهام وجبة طعام ملوكية قوامها اللحوم والشحوم على الرغم من قصر اليد وشح حال أهل تلك البلدة.
مُدت الأيادي إلى المائدة وافتُرست تلك اللحوم وسُمعت أصوات  "التلقمس" لدرجة كنت تستطيع تسجيلها كأنغام لدبكة شعبية. فالثلاثة غارقون في التهام أفخاذ وصدور الدجاج وأصابعهم السوداء تغوص وتلج أعماق أعماقها دون رأفة أو رحمة ليدفعوها إلى أفواههم الكبيرة دفعة واحدة دون تقطيع يُذكر. أما الأرز فقد كان ينهال من أطراف شفاههم ليرفعوه بأيديهم اليسرى حرصا منهم على عدم هدره وتبذيره.
جاءت ساعة مغادرة تلك المساحة الزمنية وتلك المتعة التي بها تم التواصل بين الشعب الواحد ، العائلة الواحدة المتعددة اللهجات واللكنات والسلوكيات. قيلت كلمات الوداع وشُدت الرحال وانطلقت المركبة للرحيل، للعودة إلى الديار المعلنة ليصل الرجال إلى ذلك الحاجز اللعين . وها هي الطامة الثالثة بعد الأولى والثانية لتتلاءم مع ثلاثة رجال.
انه حاجز عليهم تخطيه واجتيازه، هكذا اعتقد كبيرهم صاحب الباع الكبير في اجتياز الحواجز كونه طبيبا إنسانيا من ناحية ومشاكسا ومشاغبا ومداعبا للسلطات من ناحية أخرى. قيل لهم "قف" فوقفوا. أبناء المكان عبروا المكان والزمان. أما أبناء المكان الآخر فبقوا تحت إمرة ذلك المراهق ورهنا لإشارة منه. لم يرق الأمر للرجال الثلاثة . امتعضوا، استنكروا، رقصت فرائصهم ، تجهموا، كشروا عن أنيابهم دون جدوى تذكر.

خاضوا غمار الصمت الآتي من ذلك العالم الساكن الداكن، من صمت قبور الأجداد في بيسان وطوباس والغور. وسبحوا ضد الأمواج العالية التي لم يصل كبرياؤها علو الأسلاك الشائكة في ذلك الحاجز. فالكلاب الذئبية تنبح وتشير عليهم بالبنان منذرة أنها قد تفترسهم ولا سيّما ذلك الشخص الأسمر المطبق شحما ولحما.
استرجع الرجال الثلاثة شريط الذاكرة، ذاكرة التاريخ والجغرافية وبدؤوا اجترار ما أغدقت عليهم الرواية الفلسطينية ونراطيفها من ما سردته عليهم مناهج التعليم في الستينيات ليبدؤوا في الكفر بها وصولا لمداولة مجمل قرارات الحزب الشيوعي الاسرائيلي بشأن الهوية العربية الفلسطينية منذ قرارات مؤتمراته.
الموقف حرج، الليل بدأ في خطّ سطوره ، الذئاب تعوي والوضع يدخل في مرحلة الخطورة، خطورة عدم العودة والرجوع إلى البيت والأهل. الأفكار كثيرة، الرجال مواقف، الخوف، التحسب، الاحتساب، الأنا والآخر، الموقف الوطني والحزبي. كل ذلك جال في خاطر هذا المثلث من الرجال العاديين وغير العاديين في آن. ففي الحواجز تُصنع الرجال أو تُقمع الرجال أو لا رجال بعد، فالقضية ليست الرجال بل قضية الإنسان.
الثلاثة منهمكون في التفكير داخل غيمة اللامكان واللازمان واللاشيء . تهبط عليهم سكينة اللحد العميق وتتجمد اطرافهم حتى كادوا لا يشعرون بها ، إلا أن صوت كبيرهم الخشن والعميق يذكرهم بوجودهم وبكيانهم الإنساني فهو صوت الإنسان وليس ابن الإنسان، ذلك الصوت الذي تحدى جنود الحاجز- الأولاد منذ عهد الرومان وهولاكو وجمال باشا والجنرال اللنبي وبن غوريون. طافت عليهم أكواب ذاكرة التاريخ لمحاولة ترسيم حدود البلد الواحد. تداخلت الجغرافية في علم الأرقام ولم يستطيعوا فهم مغزى ومعاني أرقام  الـ 48،56، 67،
82، 2008 الى يومنا هذا. وهنا استذكر الثلاثة جملة القائد العسكري الإسرائيلي "لدولة اسرائيل لا توجد حدود ، فكل جيل يحدد حدود الدولة العبرية". ارتاح بالهم وهدأت عاصفتهم اللاشيئية، لانه هم، هم وحدهم سيقررون محو هذه الحدود ليتمكنوا الثلاثة والرباعة والخماسة إلى ما نهاية في اقتناء الزيت متى شاؤوا وكيفما اتفقوا وأينما وجب.
ثلاثة الرجال هم، هم من وحي ثالوثنا المقدس مثلثيّ الرحمات وهم أهل كهفنا دون كلبهم الذين سيدخلون ملكوت سموات هذه البلاد إن شاء حكام إسرائيل أم أبوا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *