ذاكرة نيسان: بين الكذب والصدق

مراسل حيفا نت | 28/04/2019

ذاكرة نيسان: بين الكذب والصدق

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

لشهر نيسان/ إبريل سطوة وحضور، يفرضها وينفرّد بها، تجعلُ منه شهرًا مميّزًا يعجّ بالكثير من الأحداث والمناسبات، الاحتفالات والأعياد، الأيّام والمناسبات العالميّة والدوليّة، كما ويرتبط بالانطلاق وتفتّح الزهر وبدايات الربيع. يستحضر كذلك الشاعر نزار قبّاني “نيسان” في شعره، ليقول في قصيدته “نهر الأحزان”: هل أرحلُ عنكِ وقصّتنا// أحلى من عودةِ نيسانِ؟ // أحلى من زهرةِ غاردينيا// في عُتمةِ شعـرٍ إسبـانيّ// يا حبّي الأوحدَ… لا تبكي// فدموعُكِ تحفرُ وجـداني// إنّي لا أملكُ في الدنيـا// إلّا عينيـكِ… وأحزاني”. بالإضافة لذلك فإنّ ذاكرة نيسان ترتبط بالكثير من المآسي والويلات التي حلّت على هذا العالم ومنها: اغتيال الرئيس الأمريكيّ أبراهام لينكون (1865)، الإبادة الجماعيّة للأرمن (1915)، غرق سفينة تيتانيك (1912)، اغتيال مارتن لوثر كينغ (1968) وسقوط بغداد (2003).

في المفهوم والتقليد الثقافيّ-الشعبيّ، غير المعترف به رسميًّا، يرتبط نيسان كذلك بمناسبة تقليديّة في عدد من الدول في العالم، تقليد ما يُعرف بيوم “كذبة نيسان أو كذبة إبريل”، الواقعة في الفاتح من الشهر، هذه المناسبة تحوّلت كذلك لمادّة دسمة، تناولتها مسرحيّة غربة (1976) من تأليف محمّد الماغوط ودريد لحّام وإخراج خلدون المالح، ففي مشهد فنّيّ-ساخر ومُحكم تمّ التعريج على عيد الكذب هذا، وصفته غُربة (التي قامت بدورها الفنّانة القديرة صباح الجزائريّ):” الشبّ بكذب على البنت، البنت بتكذب على الشبّ، المطر بكذب على الأرض، الحكومة بتكذب على الشعب… وشو بدّي أكذبلّك لأكذبلّك”. بالإضافة لذلك، تزدحم أيّام شهر نيسان من كلّ عام بالكثير من الأيّام الدوليّة، التي أقرّتها منظمة الأمم المتحدّة، ذلك إمّا لإحياء مناسبات معيّنة أو للتوعيّة بأمور أخرى، واضعين إيّاها على الأجندة الدوليّة-العالميّة. يحفلُ نيسان بعشرين يوم ومناسبة عالميّة؛ منها ما ينبثق عن المجال الصحّيّ، الأمراض المختلفة والسلامة الشخصيّة: كاليوم العالميّ للتوعيّة بمرض التوحّد (2 نيسان)، يوم الصحّة العالميّ (7 نيسان)، اليوم الدوليّ للرياضة من أجل التنميّة والسلام (6 نيسان)، يوم الملاريا العالميّ (25 نيسان)، اليوم العالميّ للصحّة والسلامة في أماكن العمل (28 نيسان). ومن هذه الأيّام والمناسبات ما ينبثق عن المجال اللغويّ-الثقافيّ؛ يوم اللغة الصينيّة (20 نيسان)، يوم اللغة الإنجليزيّة والإسبانيّة (23 نيسان)، اليوم العالميّ للإبداع والابتكار (21 نيسان)، اليوم العالميّ للكتاب وحقوق المؤلّف (23 نيسان)، اليوم العالميّ للملكيّة الفكريّة (26 نيسان)، اليوم العالميّ لموسيقى الجاز (30 نيسان). علاوة على ذلك فإنّ للمآسي كذلك النصيب من الأيّام الدوليّة الواقعة في نيسان كاليوم الدوليّ للتفكّر بالإبادة الجماعيّة التي وقعت عام 1994ضدّ شعب التوتسي في رواندا شرق أفريقيا (7 نيسان)، اليوم الدوليّ لإحياء ذكرى كارثة الانفجار في محطّة تشيرنوبيل للطاقة النووية في عام 1986، الذي أدّى إلى انتشار سحابة مشعّة على أجزاء كبيرة من الاتحاد السوفياتيّ. وتعرّض ما يقرب من 8.4 مليون شخص إلى الإشعاع (26 نيسان).

من المؤلم أن يتلازم نيسان في ذاكرتنا مع الفاتح منه، يوم الكذب، دون العروج على هذه الأيّام الدوليّة الهامّة أو أن نتنبّه إليها على الأقلّ. إنّ المتمعّن في هذه المناسبات تحديدًا، لا سيّما التي تنبثق عن المجال الصحّيّ والمجال الثقافيّ، لا بُدّ له إلّا أن يَصِلَ إلى قناعة مفادُها أنّنا وكمجتمع مأزوم، أحوج ما نكون إلى تعزيز مكانتنا والنهوض من كبواتنا المتلاحقة بل والمزمنة، من خلال الاهتمام بالمجالين المذكوريْن، بل وأنّ مُجرّد التوعيّة قد يقي أبناء مجتمعنا ويُساهم في حماية الكثير من أفراده. الأمثلة التي تُساق في هذا المضمار كثيرة، فكم من شابّ من شباب مجتمعنا قضى نحبه جرّاء الإهمال في ورشات العمل وانعدام البيئة الآمنة-الصحّيّة للعمل التي تضمن سلامة العمّال، فمن أجل ذلك تمّ تدشين اليوم العالميّ للأمن والسلامة في أماكن العمل، الذي يتزامن مع اليوم العالميّ لمناهضة عمل الأطفال، وذلك لتوحيد وتكثيف الجهود المبذولة للتوعيّة بهما. كما وترمي منظمة العمل الدوليّة إلى إذكاء الوعي بالأبعاد والعواقب التي ترتبط بالإصابات والأمراض المتعلّقة بأماكن العمل، فضلًا عن وضع صحّة العاملين وسلامتهم على جدول الأعمال الدوليّ في سبيل تعزيز ودعم الإجراءات العمليّة على جميع الصعد الممكنة. ويُراد بالبُعد الاجتماعيّ لثقافة الصحّة والسلامة المهنيّة، هو تعزيز الحقّ في وجود بيئة عمل صحّيّة وآمنة، تحترمها الحكومات وأصحاب الأعمال والموظّفين الناشطين في مجال توفير بيئة العمل الصحّيّة والآمنة من خلال نظام يحدّد الحقوق والمسؤوليّات والمهام المختلفة، يُعلي من أولويّة مبادئ الوقاية، كما جاء في برنامج الأمم المتحدّة وأسباب تدشينها لمثل هذا اليوم.

ما أحوجنا لجعل الكتاب على أجندتنا اليوميّة، تحويل القراءة إلى نمط وأسلوب حياة ننتهجه في كلّ وقت وحين، التوعيّة بحقوق المؤلّف في ظلّ انتشار ثقافة “نسح-لصق” التي تعجّ بها وسائل التواصل الاجتماعيّ المختلفة، وذلك دون مراعاة أدنى وأبسط حقوق المؤلّف وحماية ما يُسمّى بالملكيّة الفكريّة. عدا عن ذلك، نحن أحوج ما نكون كذلك لتعزيز الأصالة، الإبداع والابتكار في نفوس أبناء مجتمعنا وذلك في ظلّ هيمنة ثقافة الاستهلاك علينا، وما يتمخّض عنها من استكانة، خمول وكسل من جهة، ومن جهة أخرى الحدّ من استفحال ظاهرة التقليد الأعمى والنمطيّة السائدة في مجتمعنا والمسيطرة عليه.

هي دعوة لأن يأخذ كلّ واحد منّا دوره الرياديّ والحقيقيّ لبناء هذا المجتمع والنهوض به، وإن لم تكن بداية النهضة، نهضة فكريّة فلا يُعوّل عليها أبدًا، البداية قد تكون من بيوتنا أوّلًا ومدارسنا ثانيًا، ونحن على أهبّة الاستعداد لافتتاح فصلنا الثالث الدراسيّ، وبصدد التحضير للسنة الدراسيّة القادمة، لزامًا علينا أن نَعِي دورنا هذا، أن نذوّت القيم في نفوس طلّابنا وأن نفتح آفاقهم ومداركهم على مثل هذه المبادرات والقضايا المصيريّة التي ترتبط بالفكر، الإنسان والمستقبل، لا سيّما وأنّ موقع الأمم المتحدّة يُتيحُ ويوفّر لنا معلومات وافية وكافية عن هذه الأيّام والمناسبات، القضايا وأبعادها، كلّ ذلك يتوفّر بلغات مختلفة، منها اللغة العربيّة. هذه البداية فحسب، يمكننا كذلك أن نربط هذه المناسبات مع ما يُماثلها من نصوص وقيم من حضارتنا وأدبنا العربيّ العريق، وسحبها كذلك على مجتمعنا وما يدور في فلكه.

إن كانت البداية هنا مع إحالة للشاعر الكبير نزار قبّانيّ، سيكون هو مسك الختام كذلك، لتزامن رحيله في نهاية نيسان من العام 1998، أثر نوبة قلبيّة أصابته في منفاه الاختياريّ، لندن، أوصى بأن يُدفن في دمشقه قائلًا عنها: «الرحم الذي علّمني الشعر، الذي علّمني الإبداع والذي علّمني أبجديّة الياسمين»، وهو الذي علّمنا مفهومًا من مفاهيم السباحة عكس التيّار. ليس كَذِبًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *