جميل البحري، شخصية من القلب النابض لحيفا عندما كان عدد سكان المدينة 24 ألفا فقط، سعى البحري على بناء مكتبة وطنية في قلب لمدينة. وكتب العديد من المسرحيات وطروحات الوحدة القومية. وأسس مجلة ثقافية، وكبُرَ مع الحلم الثقافي إلى أن وافته المنية غدرًا على أيدي شابين مأجورين في ايلول 1930. وكان مقتله أن يبعث بحيفا إلى فتنة طائفية. الشاب الحيفاوي القادم من عائلة "عفارة" الحيفية العريقة، حمل حلما وارتقى به نحو التاريخ، ليكون مشروعا يستأهل أن نراجعه بتدقيق… جميل البحري، من بحر حيفا… إلى عالم الثقافة الذي لا حدود له.
فجميل عفارة حمل لقبا التصق بعائلته منذ منتصف القرن الثامن عشر، وتحديدا من أيام الشيخ ظاهر العمر الزيداني شيخ الجليل وحاكم حيفا في تلك الحقبة من الزمن. فكان جده الأول صاحب اسطول بحري تجاري يجوب أطراف البحر المتوسط الشرقية بين حيفا وعكا وطرابلس، فمن هنا التصقت التسمية "البحري" بعائلة عفارة.

أما عائلة عفارة الكريمة والتي ما يزال عدد من أبنائها البررة يقيمون في حيفا، فيعود أصلهم إلى قبائل يمنية. ولكنهم كانوا من أوائل من استوطن حيفا وامتلكوا مساحات من الاراضي على سفوح جبل الكرمل وسهله في حيفا. بعض أبناء هذه العائلة عمل في الزراعة وبعضهم الأخر في التجارة البحرية، ومنهم من توظف في وظيفة مرموقة، حيث أن يعقوب حبيب عفارة قد عُيّن كاتبا خاصا لحاكم حيفا مصطفى باشا الخليل الذي يقع بيته(وما يزال قائما) في حيفا القديمة داخل الأسوار على بعد مسافة ما من جامع الاستقلال وبالقرب من حمام الباشا الذي تعود ملكيته لهذا الحاكم.
ولعب أبناء هذه العائلة دورا رئيسا على طول القرن التاسع عشر في تشكيل حياة المجتمع العربي في حيفا حين كان عدد سكان المدينة لا يتجاوز الثلاثة آلاف نسمة.
البداية والنشأة
ولد المترجم جميل حبيب عفارة (البحري) في 12 ايار من العام 1895 في حيفا. والتحق بمدرسة الروم الكاثوليك حيث تلقى تعليمه الابتدائي على يد رجال دين كاثوليك، وكذلك تعلم اللغتين التركية(لكونها اللغة الرسمية للبلاد التي كانت خاضعة لحكم الاتراك) واللغة الفرنسية (لكون المدرسة تابعة لطائفة لروم الكاثوليك التي حظيت برعاية رسمية من الحكومة الفرنسية لفترة طويلة).
وتأثر جميل البحري بما عاشته المدينة من أحوال اقتصادية صعبة وقاسية عشية وخلال الحرب العالمية الاولى، حيث انتشرت مظاهر الفقر والفاقة والجوع في أطراف مختلفة من المدينة.
وظهرت عليه علامات الاهتمام بالأدب وميل إلى الكتابة والتأليف، فكاتب مجلة المسرة في لبنان والتي كانت تصدرها الجمعية البولسية في بيروت، حيث نشر سلسلة من الروايات التي ألفها بنفسه أو قام بترجمتها عن الفرنسية إلى العربية متصرفا بمقاطع منها.
وتأثر جميل ايضا بأجواء عائلته التي كانت مرتبطة بحياة الكنيسة، فوالده كان وكيلا لأوقاف الكنيسة ورافق أساقفتها لفترة طويلة. ويبدو أن صاحبنا جميل قد تابع هذه المسيرة في حياته إلى جانب اهتمامه بالنواحي الأخرى، خاصة الأدبية والفكرية، متمسكا بأسس الانتماء العروبي كأمر مُسلّمٌ به، لا يتعارض مع إيمانه الديني.
على مقاعد الدراسة
التحق، كما قلنا، بمدرسة الروم الكاثوليك التي كانت إلى جانب كنيسة السيدة في البلدة القديمة ثم انتقلت إلى منطقة حوش الكاثوليك الواقع بين شارعي مار يوحنا الانجيلي واللنبي. وتأسست هذه المدرسة في عام 1904 على يد المطران غريغوريوس حجار. وبلغ عدد طلاب هذه المدرسة بعد الحرب العالمية الاولى زهاء 300 تلميذا.
معلما للغة العربية
انتسب جميل عشية الحرب العالمية الاولى إلى طاقم معلمي المدرسة الاسقفية الكاثوليكية بحيفا، وهي المدرسة التي تخرج منها، معلما للغة العربية التي أحبها بكل جوارحه وعواطفه وعقله وفكره. وبقي معلما في هذه المدرسة فترة زمنية قصيرة جدا، نشر خلالها عددا من رواياته القصيرة في مجلة المسرة، كما أشرنا إلى ذلك اعلاه.
من المكتبة الجامعة إلى المكتبة الوطنية
كان جميل البحري وشقيقه حنا ميالين جدا إلى تنشيط وتفعيل الحركة الادبية والفكرية في حيفا، خاصة بعد زوال الحكم التركي ومجيء الحكم الانتدابي البريطاني، وقرّ رأيه على افتتاح مكتبة في حيفا. ويقول بهذا الصدد في كتابه "تاريخ حيفا" ما يلي: "لم تعرف حيفا قبل سنة 1914 مكتبة عمومية فكانت المدارس تأتي بما هي في حاجة إليه رأسا من مكاتب بيروت واوربا، ولكن سنة 1914 اهتم الخواجه يوسف فارس آصاف بتأسيس مكتبة تحت اسم "المكتبة الجامعة"، ولكنها لم تلبث أن أقفلت وأوقفت أعمالها ثم ارسلت بضاعتها بعد ذلك إلى بيروت بسبب اضطرار صاحبها اللبناني الأصل إلى النزوح إلى مسقط رأسه كسروان. وما وضعت الحرب العمومية أوزارها حتى رجع إلى إعادة تأسيسها بشراكة كاتب هذه الأسطر(أي جميل البحري) في ايار سنة 1920، ثم انفرد بها كاتب هذه الاسطر مع اخيه حنا وبدل عنوانها باسم "المكتبة الوطنية" في الاول من كانون الثاني 1921، وهي اليوم المكتبة الوحيدة في حيفا، كما أنها أول مكتبة يقوم بها حيفاوي تُعنى ببيع الكتب المدرسية والعلمية والتاريخية والادبية والدواوين الشعرية باللغات العربية خصوصا والفرنسية والانكليزية، وكل ما يلزم المدارس والتجار من الادوات الكتابية وهي تستورد بضاعتها من بيروت ومصر واوربا، وقد بدأت بايجاد لها مطبوعات خصوصية،.. كما أنها عازمة على ايجاد نادٍ تجعل فيه الكتب والجرائد والمجلات خدمة للادب ولتسهيل المطالعة على الادباء".
حلقة الادب: ميدان للعملين الادبي والاجتماعي
كان موضوع رفع المستوى الادبي في حيفا وبقية انحاء فلسطين شغل نخبة من المفكرين والمثقفين الفلسطينيين، وكان من بينهم جميل البحري، فانضم إلى مجموعة من اهالي حيفا وأسسوا "حلقة الادب"، وغايتها تعزيز اللغة العربية وتشجيع فن الخطابة والنظر في كل نقيصة من نقائص مجتمع حيفا الادبي واصلاحه وكذلك التعليم البيتي ونشر الكتب الادبية. وبادر إلى تأسيس هذه الحلقة الكاتب المعروف توفيق زيبق وانضم إليه خيرة ابناء حيفا، من أبرزهم "رفيق بك التميمي والدكتور قيصر خوري واديب الجدع وتوفيق الخطيب وعبد الرحمن رمضان والبحري نفسه، وكان ذلك في شهر نيسان 1922". وساهمت هذه الحلقة في افساح المجال امام كل محبي اللغة العربية بكافة فروعها إلى السعي من أجل رفع مستوى تعلم هذه اللغة والاهتمام بنشرها بين اوساط اهالي حيفا، خاصة الذين بدأوا يظهرون ميولا نحو التفرنج.
نحو النشر: مجلة الزهرة ثم الزهور
أصدر جميل البحري مجلة "زهرة الجميل" في ايار 1921 ثم اقتصر اسمها الرسمي على مجلة "الزهرة"، وهي مجلة ادبية روائية اخلاقية تاريخية فكاهية تصدر مرتين في الشهر. وجاء في تظهيرة المجلة صفحة دعائية وترويجية لها على النحو التالي:"تصدر مرتين في الشهر في 50 صفحة كل مرة وهي تحوي أرق ما تكتب اقلام ادباء العصر في مواضيع ادبية واجتماعية ومباحث تاريخية وعلمية فضلا عن قصائد لأكابر الشعراء المعروفين ورواية مستقلة تنشر في كل عدد وتنتخب بين ابدع الروايات الادبية الاخلاقية الجديرة بمطالعة الشبان والشبات على السواء" واستمرت مجلته هذه بالظهور حتى عام 1927 حين أصدر مجلة اخرى بدلا من هذه اطلق عليها اسم "الزهور"، وكانت اسبوعية، ثم تحولت إلى مرتين في الاسبوع، وبقيت تصدر إلى ما بعد وفاته بحوالي تسعة شهور، أي أنها توقفت في ايار 1931، وعلى ما يبدو ان شقيقه حنا البحري لم يتمكن من متابعة رعايتها لقلة خبرته وتراجع مبيعاتها في السوق المحلي والعربي خارج فلسطين.
الروائي الذي لا يعرف قلمه التوقف
كان جميل البحري يحمل في داخله هَمًَّا انسانيا ووطنيا، حيث اراد ان يساهم بكل ما في امكاناته من أجل رفع مستوى ابناء شعبه عِلمًا واخلاقا وثقافة، وشعر أنه يحمل رسالة لأبناء قومه، فسعى جاهدا الى كتابة روايات مسرحية، إما من تأليفه او مترجمة عن لغات اوروبية او منقولة إلى العربية بما يتناسب وطبيعة العادات والتقاليد والعقلية العربية. ومُثلّت بعض مسرحياته على خشبات مسارح مدارس حيفا، وبعض منها على مسارح لبنانية.
وكان البحري صاحب قلم زخم متدفق بالافكار الاجتماعية والاخلاقية والتراثية والتاريخية، حيث جاءت مسرحياته بالرغم من ان بعضا منها ذي قالب تاريخي، جاءت رسالة اخلاقية وادبية لأبناء مجتمعه لتقويم ما اعوج في مجتمعه هذا الذي انكشف فجأة على حضارة غربية اوروبية دون ان يمتلك مكونات ومقومات اساسية تدريجية لتحقيق نموه. ونشرت مسرحياته المطبوعة في مطبعته او في المطبعة الوطنية لصاحبها باسيلا الجدع في كافة انحاء العالم العربي. وجدير ذكره هنا ان مجلته كانت توزع بما يزيد عن خمسمائة نسخة، وهذا عدد ضخم بمفاهيم ذلك الوقت، لقلة القراء في الاساس، ولذهاب الناس في اهتماماتهم اليومية الى جني الثروات والاموال.
وله قرابة عشرين رواية، من ابرزها:"قاتل أخيه" و "سجين القصر" و "الاختفاء الغريب" و "الوفاء العربي"(وهي بقلم الانسة امينة الخوري ولم يكن جميل البحري سوى الناشر لها فساد الاعتقاد انه مؤلفها، ولكنه ساهم في تشجيع الادب النسائي على رؤية النور في اوقات صعبة وقاسية)، وغيرها.
مؤرخ ومهتم بشؤون محيطه
وكان همه ان يُعرّف أبناء حيفا على تاريخ مدينتهم فوضع كتابا موجزا حول تاريخ المدينة ومؤسساتها والتحولات التي حصلت فيها مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، وهو بهذا يوفر لنا شهادة قيّمة للغاية بقلم من عاش في تلك الفترة عما كان يجري في حيفا، هذه المدينة الواعدة التي حملت أملا وتطلعا لأبنائها، وانقطع بفعل النكبة التي حلت بشعبنا في عام 1948. وبدأت تظهر علامات نشاط متقدم لطائفة البهائية في حيفا، واهتم بكتابة نبذة عنها وعن مؤسسها، واصفا جنازة عباس افندي بدقة وشارحا بعض مبادئ هذه الطائفة، فيكون بهذا اول من وضع تاريخا حديثا لحيفا وتاريخا للبهائية بالعربية من ابناء مدينة حيفا. ووضع ايضا كتابا موجزا حول سيرة وحياة واعمال المطران غريغوريوس حجار الذي عُرف بـ "مطران العرب ومسيح الشرق" وذلك لمناسبة الاحتفال باليوبيل الفضي للمطران حجار في عام 1927.
مات البحري مغدورا
كان البحري يعمل متطوعا لدى المطران الحجار وكيلا للاوقاف في حيفا، ووقعت خلافات حادة بين مسلمي ومسيحيي المدينة حول ملكية مقبرة في حي محطة الكرمل، حيث ادعت كل طائفة بحقها في هذه المقبرة. وأثناء قيام البحري بتفحص الاحوال في المقبرة بعد ورود أنباء عن إقامة براكيات فيها، انقض عليه شابان مأجورين من حيفا وضربه احدهم بأداة حادة أودت بحياته وذلك في السادس من ايلول 1930. وكادت أن تندلع فتنة طائفية بين أهالي حيفا العرب جرّاء هذه الجريمة النكراء لولا تدارك الامر من قبل المطران حجار والمفتي الحاج امين الحسيني اللذين كان يُكِنّا كل محبة واحترام للمغدور الذي قتل غيلة على أيدٍ آثمة مأجورين من قبل أطراف مشبوهة لدق اسفين في الوحدة الوطنية والقومية لعرب حيفا وسائر انحاء فلسطين.
وجرت لجميل البحري جنازة كبيرة جدا قلما شهدت مثلها حيفا، وألقيت على قبره قصائد شعرية رثائية وكلمات تأبينية نشرتها صحافة فلسطين، وفي مقدمتها صحيفة الكرمل لنجيب نصار وصحيفة فلسطين اليافية لعيسى العيسى. ومن اشهر القصائد التي القيت فوق قبره الدامي قصيدة الشاعر والمحامي وديع البستاني احد اصدقاء البحري، قال فيها:
قف بي على قبر(الجميل) الدامي وأقرأ عليه تحيتي وسلامي
هل فيك غير فتى حديث بعده للعيسوية كان والاسلام
يا ناكرين على الجميل جميله وممرغين جماله برغام
يا قائمين إلى التباعد بعده يا حاجبين ضياءه بظلام
لا الدين قاتله ولا اصحابه يا ضاربين لجفوة بسهام
لا تلبسوا الدين الحنيف جريمة يا آثمين كبيرة الآثام
قم يا جميل لظالميك وظلمهم واطلب أخاك تجده في الظلام
قم يا جميل لكاتبين محطما ما في أكفهم من الاقلام
قم يا جميل وقل لهم لا تحجبوا وجه الصباح ببرقع الايهام




