زمكانيّة المدينة وبناء الإنسان

مراسل حيفا نت | 07/04/2019

زمكانيّة المدينة وبناء الإنسان

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

 

للمدن سطوة، حضور، هيبة وهيمنة تفرضها على الإنسان، الإنسان الذي يصنع المدن، تصنعه هذه المدن بدورها، ربّما هذا ما تماهى معه المهندس اللبنانيّ إيميل عكرا، ليقول:” نحن نصنع المدن والمدن تصنعنا، فماذا صنعنا؟”. كما وتحضر المدن في شتّى مجالات حياتنا المختلفة؛ الاجتماعيّة، التربويّة، الاقتصاديّة، القيميّة، السياسيّة، الأنثروبولوجيّة، الديموغرافيّة، الحضاريّة، الثقافيّة، النفسيّة والأدبيّة. تشكّل المدن علاقة خاصّة وفريدة من نوعها مع الإنسان، لتشكّله وتُساهم في بلورة مجمل مفاهيمه الحياتيّة المختلفة، نمط تفكيره، هوّيّته وثقافته.

المدن العتيقة بصورتها التقليديّة-النمطيّة في السياق العربيّ المدينيّ، عادةً ما تمتاز بالأزقّة الضيّقة والدقيقة والتي تفضي إلى ساحة كبيرة، تؤدّي إلى المسجد والذي عادة ما يحيط به الحمّام التقليديّ، المدرسة إذا ما كانت موجودة، بالإضافة للسوق المركزيّة-التجاريّة. ثمّ توسّع لاحقًا مفهوم المدينة وتطوّر في العصر الحديث لتظهر المدن الكبيرة، المتوسّطة والصغيرة، وهي المدن التي نشأت أيّام الاستعمار أو في سياق الاستعمار ذاته أو في مرحلة ما بعد الاستعمار. والمثير في الأمر أنّ مدننا تعاني من التمزّق، وذلك من ناحية الهندسة المعماريّة والتخطيط الحضريّ، ومن ناحية التحوّلات المجاليّة والمدى كذلك، هذا الحال يُسمّيه الباحث الأكاديميّ والناقد الثقافيّ يحيى بن الوليد في بحثه المنشور باسم “عن المدينة وأحيائها المعدمة في الثورات العربيّة الأخيرة: مقترب ما بعد كولونياليّ عامّ”، يُسمّيه “تمديُن منفلت:” أيّ حال ما يعطّل المدينة عن “عقلنة تملّكها”، وعن أداء وظائفها الأساسيّة على مستوى الديناميّة الحضريّة والسيرورة التاريخيّة ومستلزمات التبادل والتشارك.

في المقابل نَجِد أنّ هذا هو ما تحدّث عنه وأشار إليه سابقًا الأكاديميّ الفذّ الراحل إدوارد سعيد ضمن ما يُعرف بحقل ودراسات خطاب ما بعد الكولونياليّة (postcolonialism)، أنّ الاستعمار هو من كان وراء تشكيل ما يُعرف بالعالم الثالث، وهو من وقف وراء ترسيم خرائطيّ، فوفقًا له تمّ إحداث ما يُقارب المئة دولة جديدة انفكّت عن الاستعمار بعد عام 1945. ليبدأ بعد ذلك الدكتاتور العربيّ الجديد يبدع في سياقات ما يعرف بالاستعمار الداخليّ في تجلّياته الميدانيّة المختلفة، تمخضّت عنه أنماط أخرى من الاستعمار وأشكال متفاوتة؛ كالاستعمار الذكوريّ الذي تشكّل في أعقاب تسلّط الرجل في مجتمع أبويّ-بطريركيّ متهالك والاستعمار الثقافيّ في ظلّ استفحال الامبرياليّة الثقافيّة التي تكون إمّا على شكل هيئة رسميّة-عامّة أو كموقف عامّ يُشجّع ممارسة وفرض ثقافة معيّنة، عادةً ما تكون لأمّة قوّيّة عسكريًّا وسياسيّة، على أُمّة أخرى أقلّ قوّة. عدا عن الاستعمار الفقهيّ في ظلّ سيطرة رجال الدين على المجتمعات.

ممّا لا شكّ فيه بأنّ للمكان التأثير الكبير على الإنسان، تشكّل هوّيّته وصقل شخصيّته وبالتالي فإنّ الحاجة للمدن هي حاجة ضروريّة جدًّا للإنسان وبها بُعد عميق يُشكّل حالة هوّياتيّة وثقافيّة مع الإنسان، لذلك فالعلاقة الناشئة بين ذات الإنسان والمكان هي علاقة جدليّة تؤسّس كذلك إطارًا متينًا لتعريف فضاءات الهوّيّات الفرديّة والجماعيّة على حدٍّ سواء، الخبرات ومفهوم الكون. أعتقد بأنّ مفهوم المدينة في حياتنا وفي مجتمعنا المأزوم هو مفهوم مشوّه نوعًا ما، ونظرًا للمتغيّرات العصيبة التي نمرّ بها فإنّنا ما زلنا في طور بناء المدينة، نقع بين مفهوم القرية الريفيّة التقليديّة وحلم بناء المدينة الحديثة والعصريّة، فلا نجحنا في عمليّة نقل المدينة إلى القرية ولا في عمليّة النهوض بمفهوم القرية والنهوض بها إلى مفهوم المدينة.

الخطوة الأولى لتحقيق حلم بناء المدينة يكمن في تغيير أنماط تفكيرنا من خلال بناء منظومة فكريّة بالتدريج، تنطوي على التعامل مع الإنسان من كونه إنسانًا قبل كلّ شيء، لا وفقًا لشكله الخارجيّ، لون بشرته، اعتقاده الدينيّ أو اللادينيّ، جنسه، مستواه الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ، تماهيه الحزبيّ أو السياسيّ، إنّ تعزيز مثل هذه الثقافة تُساهم في بناء إنسان واعٍ، مُثقّف، مغاير ينتمي للإنسانيّة بمفهومها الواسع والشامل لكلّ أنماط وانتماءات الناس. علاوة على ذلك تساهم المنظومة الفكريّة هذه في تعزيز قيم مدنيّة عصريّة-حديثة كالنقد الحرّ-البنّاء، الحرّيّة الفرديّة والاستقلاليّة وكلّها بالضرورة تنعكس على أُطر فنّيّة أُخرى كالمسرح، الأدب والموسيقى. ممّا لا شكّ فيه أيضًا أنّ هذه الأُطر الفنّيّة تحتاج إلى إتاحة وتعزيز ودمج داخل المجتمع من خلال إفراد وتخصيص أماكن ومبانٍ خاصّة وبطراز معماريّ يتماهى معها، الأمر الذي يُشير إلى تلازم صناعة المدينة مع بناء الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *