القضية الرمز في تغريبة أبناء إقرث – نايف خوري

مراسل حيفا نت | 14/10/2010

كتب كثير من الأدباء والكتاب والصحافيين، وتغنى كثير من الشعراء والمغنين بإقرث لا لأن عدد سكانها لا يتجاوز ألف نسمة، ولا لأنها هدمت وبقيت كنيستها ومقبرتها صامدتين. ولا لأن أهلها مشردون في أماكن عديدة من الجليل والكرمل، ولا لأنها أنجبت الشعراء والكتاب، ولا لوجود الأطباء والمحامين والمهندسين والفنانين وغيرهم من أبنائها.. لا.. ليس لأجل كل هذا.. بل لأنها أصبحت قضية رمز لسكان الجليل والمثلث والكرمل والنقب، وأبعد من ذلك، للسكان الفلسطينيين جميعًا، لا بل للعرب كلهم في قضيتهم مع إسرائيل.. حتى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جعلتها مثالاً للقضية الفلسطينية وربطتها بقضية العودة، عودة اللاجئين..
 أصبحت قضية عظيمة من حيث لا ندري.. لم يقصد أهلها أن يقوم الزعماء العرب عمومًا ولا الفلسطينيون خصوصًا بالتدخل لحل قضيتهم، ولم يعلقوا الآمال على المسؤولين الروحيين في الكنيسة، ابتداءً من الكاهن العادي إلى الأسقف وحتى إلى الفاتيكان وقداسة البابا نفسه.. ولم يعولوا على أحد ليأخذ بيدهم ويقتادهم في نضالهم، بل اعتمد الأهالي على أنفسهم في مطالبتهم لحل قضيتهم، وتولوا شأنها ابتداءً من مسألة توجههم مباشرة إلى الحكومات والكنيست وأعضائه وانتهاءً بمحكمة العدل العليا التي لم تنصفهم بعد..

اتخذ أهالي إقرث إستراتيجية مميزة دون أن يخططوا لها، واتبعوا الوسائل التي لم يدبروا لها، بل جاءت تلقائية وعفوية وتعبر عما يجيش في نفوسهم، وما يختلج صدورهم من مشاعر وأحاسيس وأفكار، ظهرت كلها في خدمة القضية، لأن الأهالي اجتمعوا على رأي واحد، وأجمعوا على موقف واحد وهو الإخلاص والوفاء لقضيتهم.. فلم ينثنوا من أمر تعسفي، ولا من قرار مجحف، ولا من معاملة جائرة، ولا من تنكيل متواصل، ولا من التصدي لكل محاولة لطمس القضية وإلغائها، ولا من مكافحة المستوطنين لهم، ولم يرتدعوا من ملاحقة مفتشي دائرة أراضي إسرائيل لهم، وهدم كل محاولة للبناء أو إعادة البناء، أو زرع حتى نبتة من النعناع أو البصل، بل أقاموا محكمة خاصة أطلقنا عليها اسم محكمة البصل لأن شيوخ إقرث زرعوا حوضًا من البصل أمام كنيستهم.
وتعرض الأهالي للمكافحة لا بل لمقاومة كل محاولة لزرع حب إقرث في نفوس الأبناء، وغرس الانتماء إليها في قلوب الأحفاد، واعتبرت الحكومات كل من يتحدث أو يتعاطف أو يؤيد قضية إقرث بمثابة المنقلب على سلامة الدولة وأمنها ويعرّض مواطنيها للخطر.. وإزاء كل هذه المعاملة، منذ سنوات قيام الدولة وحتى اليوم، وإزاء صمود الأهالي وجهدهم، ومثابرتهم والتمسك بقضيتهم وترابهم وتراثهم، وإزاء التزامهم بمبادئهم وقيمهم، نشأ في إقرث هذا الكم من الشعراء والكتاب ورجال الفكر والعلم والمجتمع، وحرصوا على المحافظة على نقاء قضيتهم، وصفاء أهدافها، وسمو معانيها.. وفي هذا الجو العارم من التاريخ الذي مضى والذي لا يزال يحدث حتى وقتنا الراهن، لا غرو إذن أن يقوم الأستاذ الشاعر معين سبيت بوضع هذه التغريبة التي تتحدث عن قضيته، قضيتنا، بكل صدق وحرص وتستعرض الحقائق والدقائق. وجعلها بين أيدي أبناء بلده وأبناء شعبه كذكرى عطرة ليستفيدوا منها ويتعلموا من أمجادها، ويتلقنوا من دروسها ويتعظوا بعبرها. وأتمنى لأهل بلدنا الرجوع القريب كأحياء لا كأموات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *