ثقافة التوثيق لحظ الذاكرة من الضياع

مراسل حيفا نت | 21/03/2019

ثقافة التوثيق لحظ الذاكرة من الضياع

رقيّة عدوي: مُدّرِسة في مدرسة المتنبّي

 

عوّدنا الشعراء العرب على الوقوف على الأطلال، فكانت المقدّمات الطلّليّة واحدة من أبرز سمات المعلّقات العربيّة التي يُقال بأنّها عُلِّقت يومًا على أستار الكعبة، وقالوا عنها المذهّبات المكتوبة بماء الذهب. اليوم نُعلّقُ جاهليّتنا، تخلّفنا وبربريّنا عند باب المندب، نسينا الخطّ العربيّ وفجر اللغات، نتغنّى بماضٍ مخترع لم نتعلّم منه الدروس اللازمة لننهض من كبواتنا الكثيرة والمتعاقبة. بقيَت القصائد والمعلّقات حبيسة القسم الأوّل من امتحان البجروت باللغة العربيّة، ونظريّات الأدب العربيّ تُكتب من الأبراج العاجيّة في الجامعات، التي صرنا نشتري وظائف انهاء المساقات وربّما رسائل الماجستير والدكتوراة من المعاهد والمراكز التجاريّة، تمامًا مثل الذي يكتال البطاطا والفجل من سوق الخضروات في الهدار صباحًا، وأمّ كلثوم تتنهّد.

وقوفنا على أطلال الماضي والاستكانة له، السلبيّة التي نقبع فيها بالإضافة للخمول والكسل هي جملة واحدة من قضايا شائكة ومترابطة جعلت منّا مجتمعات وشعوب مستضعفة، مقهورة، جاهلة ومتخلّفة وذلك ينبع بالدرجة الأولى من افتقارنا لثقافة اسمها ثقافة التوثيق، نحن مجتمعات وشعوب لا توثّق ولا تكتب. يقول جبرا إبراهيم جبرا عن الكتابة في كتابه معايشة النَمِرَة وأوراق أخرى:” فإذا كنت أعجب وأحزن لمن لا يعرف متعة القراءة، فإنّني أنّ الكتابة شأنُها شأن آخر، لا يُشبه القراءة ولكنّه يصبّ في النهاية فيها، فالمبتلى بعشق الكتابة كمن أبتلي بجوع جحيميّ، بشبق لاهث وراء سراب. ولكنّها إذا ما تحقّقت، فهي الوليمة التي دونها كلّ الولائم: وليمة الخلق والخيال، وليمة الحسّ والعقل، وليمة الوحيّ والنشوة، ولا يخرج المرء منها إلّا مضطرًا، وكأنّه يخرج من عوالم الوهج والإثارة والمستحيل، ليعود إلى عالم عاديّ جدًّا، باهت اللون جدًّا، يبحث فيه عن السحر الذي لن يلقاه على أشدّه إلّا حين تعاوده حمّى الكتابة، وتستبدّ به بعذابها، عذوبتها، من جديد”.

التوثيق في أيّامنا لا يقتصر فقط على حمل الورقة والقلم ومن ثمّ التدوين، بل هي ثقافة تشمل مجمل الحراك الفنّيّ-الأدبيّ-الموسيقيّ-الفكريّ-العلميّ الذي يمكن أن ينشأ في أيّ مجتمع أو حاضرة إنسانيّة. ثورات ما يُعرف بالربيع/ الخريف العربيّ جعلت من الإنسان البسيط والعاديّ، والذي يحمل هاتفًا ذكيًّا جعل منه صحافيًّا يمكنه أن يلتقط عبر كاميرته الحديثة صورًا أو تسجيلًا لمظاهرة أو مواجهة ما، بلمح البصر تنتشر الصور والتسجيلات عبر فضاء مواقع التواصل الاجتماعيّ، تعثّر الربيع فما أزهر سوى الخيبات. بقي التوثيق، التوثيق الذي كان السلاح الآخر بيد المجرم الذي ارتكب مجزرة في مساجد نيوزلندا خلال الأسبوع المنصرم، شاهد العالَم كلّه الجريمة الشنيعة المرتكبة بحقّ العُزّل فكان بالتالي شاهدًا على عمليّة توثيق بشعة قام بها القاتل وبالبثّ الحيّ والمباشر. ففي الحالتين؛ توثيق المجزرة في نيوزلندا وتوثيق المجازر في الربيع/الخريف العربيّ يدلّ على سوء في استخدام ثقافة التوثيق والتماهي معها. ماذا نكتب؟ ماذا نوّثق وكيف ولماذا؟ نوثّق حوادث القتل والمآسي وأعداد الضحايا دون أن نلتفت للأسماء والأحلام والحبيبات. هل هذا هو واقعنا الذي سيكون تاريخنا غدًا؟

الشعوب القادرة على التوثيق تكون قادرة على التماهي مع الحياة بمركّباتها أكثر، هي شعوب منتجة للعلم والإبداع وهي الأقدر على صياغة واقعها بالاعتماد على أرضيّة المعلومات الوفيرة التي يمكن أن تستخلصها جرّاء الكتاب، التدوين والتوثيق. علاوة على كونه، التوثيق، واحد من أبرز عوامل حفظ اللغة القوميّة وتذويتها في نفوس وعقول أبنائها. في المقابل نجد بأنّ الشعوب التي لا تكتب ولا تُوثّق تكون هي الأكثر عرضة للضياع والشرذمة نتيجة لفقدانها لبوصلتها الجامعة والموحّدة لها، لا ننسى بأنّ أحد أبرز عوامل بناء القوميّة وفقًا لنظريّة بندكت أندرسون التي وضعها ضمن كتابه الشعوب المتخيّلة كانت الأرشفة والجرائد اليوميّة التي تعمل على توحيد الأمّة وتوجيه الشعوب للتفكير بماهيّة العوامل المشتركة والجامعة لهم، بالتالي يتسنّى للأفراد التفكير بالجماعة، والجماعة تُفكّر بتأثير الفرد عليها وتوجيهه لها من خلال مقال في صحيفة أو منشور في الأماكن العامّة والذي يكون في متناول الجميع. أمّا فيما يتعلّق بمفهوم التوثيق عند العرب فيرجع إلى حرص المسلمين منذ بدايات الإسلام على تأريخ الأحداث من يوم هجرة الرسول محمّد من مكّة إلى المدينة سنة 622 ميلاديّة، كما أشار إلى ذلك ألبرت حوراني في كتابه الفذّ الذي جاء تتويجًا لحياة من التعليم في أكسفورد “تاريخ الشعوب العربيّة”. عمليًّا كتاب ألبرت حوراني يصبُّ في مضمار التوثيق التحليلي والدقيق لتاريخ الشعوب العربيّة متناولًا بذلك مواضيع معقّدة ممتدّة من القضايا السياسيّة إلى المسألة الفلسطينيّة إلى دور المرأة في المجتمع وغيرها، عالَج موضوعات الكتاب بحكم منصف، متوازن ومُجرّد. بالإضافة لذلك – كما يُضيف ناشر الكتاب – فإنّ أهمّ سمات وميزات هذا الكتاب والتوثيق الذي يعرضه حوراني، كان التفسير الدقيق الذي يتناول فيه الثابت (الاستمراريّة والتغيير) وعمّا هو متحوّل (تحالف المصالح التي كانت تحدّد مدى قدرة السلطة الحاكمة تبعًا للزمان والمكان)، كما ويحيط بتفاصيل الشؤون الحياتيّة العادية لمختلف طبقات السكّان والملل، الأمر الذي جعل الكتاب غنيًّا عن سرد الوقائع والأحداث بالمفهوم التقليديّ للتاريخ.

تجربة حوراني على سبيل المثال في التوثيق والتدوين لهي خير مثال ودليل على أنّه يمكن لنا أن نكرّر هذه التجربة، تجربة التوثيق، بوعيّ، إدراك ومسؤوليّة، وهي أولى الخطوات الصحيحة على درب التحوّل التاريخيّ الذي أحوج ما نكون إليه في هذه الأيّام. فكما قال الخالد فينا محمود درويش:” من يكتُب حكايته يَرِثُ أرض الكلام ويملك المعنى تمامًا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *