لقد بدأنا، أنا وزوجتي، بالاستعداد للسفر إلى مدينة لايبتسيك في ألمانيا، حيث قُبلت زوجتي لبرنامج اللقب الثاني في مدرسة متخصصة في الكتابة الأدبية. قرار الالتحاق بهذه المدرسة جاء بعد أن بدأت زوجتي بكتابة رواية باللغة الألمانية. إنها تطمح بأن تساعدها هذه المدرسة على تمكين مهاراتها الإبداعيّة وعلى التعرف على كتّاب ألمان مرموقين، هم من ضمن الذين يُعلمون في هذه المدرسة. أما أنا، فسوف أستمر في الكتابة والتأليف الموسيقي، لكن لا مناص لي من الالتحاق بدورة لتعليم اللغة الألمانية للأجانب. وكما هو الحال في مثل هذه الأحوال، فإننا الآن في عزّ التحضيرات اللانهائيّة، فعلينا ترتيب مسألة التأمين الصحي وإيجاد مستأجر للدار والبحث عن دار للإيجار في لايبتسيك وإلغاء خدمات الماء والكهرباء والغاز والـ"كوابل" وشبكة الانترنت وغيرها. أهلي كعادتهم يساعدوننا في الكثير من الأمور وأظنهم يخفون مشاعرهم من الفراق المُرتقب، مكررين بمناسبة وبغير مناسبة: "بنفع نحكي على الـ’سكايب’"، وهذا بالطبع صحيح، فالتكنولوجيا الحالية تخفف من وجع الفراق وتمكن من التواصل بالصوت والصورة عبر الحاسوب، بصورة ناجعة وبتكلفة زهيدة.
طبعًا أنا سعيد بالفرصة التي سَنَحت لزوجتي لتتمكن من صقل موهبتها الإبداعيّة ولتتواصل مع ثقافتها ومع مبدعين من بلدها. لكن عليّ الاعتراف بأن فرحي بقُرب تواصلها مع ثقافتها وحضارتها، يخالطه حزن على انسداد مثل هذه الفرص أمامي وأمام مبدعين ومبدعات فلسطينيين في هذه البلاد. فدولة إسرائيل التي لا تنفك تتباكى حول ألحصار الثقافي والأكاديمي المفروض عليها، لا تترك وسيلة إلا وتستعملها لفرض حصار ثقافي على الأقليّة الفلسطينيّة. وعلى سبيل المثال، فقد صدرت قبل شهور عديدة روايتي الثانية "واقع مأجور". هذه الرواية صدرت عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، وهي دار نشر مرموقة مركزها في بيروت ولها مكاتب في عمّان. ومع أن العقد المبرم مع دار النشر يخولني من استلام ثلاثمائة نسخة من الرواية، إلا أنني لم أر حتى الآن ولا نسخة واحدة من الرواية التي ألفتها! فحسب قوانين "الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط"، لا يُسمح لي بإحضار النسخ المستحقّة من كتبي، فهي بحسب القانون الإسرائيلي كتب مستوردة من "دولة عدوّ". ولا يهم قوانين هذه الديمقراطيّة أن دول "عدوة" مثل لبنان وسوريا هي من أهم مراكز الثقافة العربيّة. لقد عَلِمتُ بأن الأمر قد استلزم قرارًا من محكمة العدل العليا، حتّى حصلت مكتبة واحدة في البلاد على ترخيص باستيراد كتب طبعت في "دولة عدوّ". دولة إسرائيل تُصعّب حياة من ينشر كتبه في دول عربية ولا تسمح له بإحضار الكتب التي كتبها ينفسه. منذ عدّة أشهر وأنا أنتظر بفارغ الصبر أن يجيء الفرج وأن تقرر المكتبة صاحبة التصريح أن تُحضر لي كتابي. وطبعًا لا مكان لمشاعري كمؤلف ينتظر لقاء كتابه، كما ينتظر الوالد لقاء ولده، فاعتبارات المكتبة هي اعتبارات تجاريّة وهي لن تُحرك ساكنًا قبل أن تتجمّع في الأردن شحنة كافية من الكتب تستأهل أن تقوم بشحنها.
اليوم استلمت ورقة من البريد عن أن هنالك رزمة تنتظرني، وعليه فأنا أظن بأني، أخيرًا، على وشك الحصول على بعض النسخ ن من كتابي. لقد طلبت من خالي الذي يسكن في الولايات المتحدة أن يشتري أربع نسخ من الكتاب وان يرسلها لي عن طريق البريد. النسخ الأربع خرجت من لبنان وشقّت طريقها الى الولايات المتحدة وثم عادت عبر المحيط الأطلسي والبحر المتوسط إلى حيفا، وكل ذلك لكي أتمكن من لمس وشمّ كتابي الذي تعبت عليه. أليس هذا مثيرًا للضحك!
أنا الآن مستلق على الكنبة، أشرب الـ"بلو" وأستعد نفسيًا للسفر إلى نهاريا هربًا من ضجة مفرقعات عيد الصليب. أشعل سيجارة وآخذ نفسًا وأقول لنفسي: "يلا …كمان جمعة بيجي كتابي الحبيب اللي دار حول العالم".