عنوان كتاب جديد اصدرته جمعية التطوير الاجتماعي في حيفا قبل حوالي الشهر. والكتاب من تحرير الأستاذ حسين اغبارية مدير عام الجمعية. ويحوي الكتاب مجموعة كبيرة من شهادات حية تم تسجيلها وتوثيقها. وتنقل الشهادات المروية بلسان كبار السن من أهالي حيفا صورًا رائعة حول مشاهد الحياة المختلفة والمتنوعة التي سادت حيفا ومجتمعها العربي في فترة الانتداب البريطاني وما تلاه بعد النكبة وخلالها من مآسي وكوارث حلت بهذا المجتمع الفلسطيني اليافع والفتي. وتشير كل الروايات إلى أن حيفا قد احتضنت عددًا كبيرًا من المؤسسات التعليمية كالمدارس على مختلف مراحلها، ومؤسسات المجتمع المدني كالحركات الكشفية والرياضية والأندية الثقافية والفكرية وقاعات عرض الافلام (السينما) والمسارح والفرق الموسيقية وغيرها من الأنشطة.
.jpg)
وهذه كلها تشكلت بفعل مبادرات صدرت عن أبناء حيفا العرب. وكانت حيفا حلقة وصل بين لبنان وسوريا ومصر، وفيها تبلورت نقطة التقاء حضارية جمعت مركبات الحضارة العربية بنوع خاص من خلال نشاطات اقتصادية واجتماعية قدمتها ووفرتها حيفا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. حيث أن موقعها ومكانتها الآخذة بالنمو ساهمت في جذب مئات العائلات العربية من البلاد المحيطة التي رأت فيها نورًا مستقبليًا زاهرًا. ولا يُخفى على أحد أن حيفا تعرضت لاحتلال عسكري على يد الجيش البريطاني عند نهاية الحرب العالمية الأولى، ولعب هذا الاحتلال دورًا بارزًا في تكوين المدينة بهيئتها المعاصرة، حيث أسست مشاريع ضخمة كالميناء ومعامل تكرير البترول والمنطقة الصناعية وهذه وفرت فرصًا كثيرة من العمل، مما أدى إلى حدوث هجرة فلسطينية داخلية وعربية من البلدان المجاورة إلى حيفا طلبًا للرزق، وكانت حيفا المدينة التي فتحت ذراعيها لكل الوافدين إليها. واعتبرت حيفا مدينة حديثة العهد زمنيا من حيث تأسيسها ومن حيث مركباتها الحياتية. لذا، فإن الشرائح المختلفة التي وفدت إليها بحثا عن مصدر رزق ساهمت في بناء مركبات حياة حديثة ومعاصرة أدت في نهاية الأمر إلى تكوين مجتمع مدني منفتح.
وحيفا، كما يكتب الأستاذ اغبارية في مقدمة الكتاب:"صورة مُصغرة لشعبنا ولفلسطين كلها، ترمز إلى عنفوان الحياة الغنية وإلى انقطاعها ثم تجدُدها من خلال الربط بين حلقات الزمن وبين الناس، وكأن الكتاب حلقة الوصل التي تربط حاضرنا بمستقبلنا من خلال إعادة ترميم حركة التاريخ وتنظيم سيرها على نحو يتيح لنا أن نوصل بين حلقاتها المفقودة فكأنها لم تنقطع".
وكتب الدكتور جوني منصور مدخلا لهذا الكتاب تطرق فيه إلى خلفيات ذات صلة بكتابة التاريخ الشفوي وأهمية هذا الموضوع في تثبيت الحقيقة التاريخية وتوفير المعلومات الضرورية للأجيال الحالية لتكون متصلة بالماضي، إذ أنّ من ليس له ماضٍ لا حاضرَ له ولن يكون له مستقبل مطلقًا. وجاء في هذا المدخل:"أن مواضيع الذاكرة الشفوية الفلسطينية لها علاقة قوية ووثيقة بالصراع الدائر منذ قرن ونيف بين الفلسطينيين والحركة الصهيونية ثم اسرائيل، وسبقه صراع ضد الاحتلال البريطاني في فترة الانتداب على فلسطين. أما التراث الشفوي والحكايات المعروفة فهي كثيرة ومؤسسة على الموروث الحضاري غير المنقطع للشعب الفلسطيني عبر محطات تاريخية، إنما استحوذ حدث النكبة وما مهد له وما تلاه على شطر كبير من التاريخ الشفوي وعلى الموروث الحضاري التراثي بكافة تجلياته".
بنظرنا فإن كتاب "يحكون حيفا" عبارة عن شهادات حية لمدينة فلسطينية ساهم كثيرون من ابناء الشعب الفلسطيني والعربي عامة في تكوينها ورفع شانها، وكثيرون ممن يعيشون فيها حاليا بالجسد، أو اللاجئين قسريا عنها يحملون ذكريات طيبة جديرة بتجميعها ونشرها لتكون مرآة لهذه المدينة.




